جرت العادة في السنوات الاخيرة أن تعقد «مؤسسة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري» ندوات للتواصل الثقافي بين الشرق والغرب تحمل اسمين من ثقافتين مختلفتين. وهكذا، بعد ندوة باريس (أحمد شوقي ولامارتين ) جاءت ندوة سراييفو 2010 لتحمل اسمين لشاعرين (خليل مطران ومحمد علي دزدار)، مع الفارق الكبير بينهما. فاذا كان مطران اللبناني - المصري شاعر التجديد الرومانسي في الشعر العربي خلال النصف الاول من القرن العشرين، فان دزدار هو أهم شاعر بوسنوي في القرن العشرين، عاد بالشعر من الارض (الواقعية الاشتراكية) الى ما هو مدفون تحت الارض (قبور الهراطقة) لينقل رسائل مهمة الى المستقبل (انهيار النظام الشمولي) الذي لم يصله بسبب وفاته في 1971. وإذا كان مطران قد اشتهر بديوانه الكبير، الذي طُبع في أربعة أجزاء وضم شعره الذاتي بالاضافة الى شعر المناسبات الكثيرة، فإن دزدار اشتهر بديوانه اليتيم «نائم الحجر» أو «النائم الحجري» الذي صدر في 1966 (التي تعني الكثير للنظام الشمولي في يوغوسلافيا السابقة) وجعل منه اسماً معروفاً ومؤثراً بقوة في يوغوسلافيا وجوارها السلافي. وتجدر الاشارة هنا الى أن محمد علي دزدار ولد في مدينة ستولاتس شمال البوسنة عام 1917، أي حين كانت البوسنة جزءاً من إمبراطورية النمسا والمجر، ونشأ في الدولة الجديدة التي تشكلت في نهاية الحرب العالمية الاولى (يوغوسلافيا) ليشهد انهيارها في 1941 ولينضم الى قوات «البارتيزان» التي كان يقودها الحزب الشيوعي اليوغسلافي بقيادة تيتو لتوحيد يوغوسلافيا على أسس جديدة تمنح المساواة للشعوب، وهو ما كان يعطي الامل للمسلمين في البوسنة الذين حرموا من المساواة مع الشعوب الاخري في يوغوسلافيا الاولى (1918-1941). وخلال «حرب التحرير الشعبية» برز دزدار كشاعر باسم حركي (ماك) فرضته ظروف الحرب الجديدة، وهو ما اشتهر به بعد الحرب ( ماك دزدار) حتى غطى على اسمه الحقيقي (محمد علي دزدار). والمهم هنا أن دزدار مع اختياره لهذا الاسم الحركي أعطى لنفسه هويته الفكرية والشعرية، ف «ماك» تعني في اللغة السلافية الخشخاش، الذي هو رمز للارض والنوم والموت، وإذا عكست حروفها تصبح «كام» وتعني الحجر. ومن الواضح ان دزدار أصابه ما أصاب النخبة المثقفة المسلمة من احباط في يوغوسلافيا الجديدة، فقد انضم دزدار، كغيره من المثقفين المسلمين، الى قوات «البارتيزان» التي كانت تدعو الى بناء يوغوسلافيا اشتراكية تقوم على المساواة بين الشعوب، ولكن ما تحقق بعد 1945 كان بعيداً عن المثل الاعلى الذي حمل السلاح لاجله خلال الحرب (1941-1945). ومن هنا وجد نفسه في موقف مخالف للحزب الشمولي الحاكم، ولكنه أراد أن يعبر عن انشقاقه أو هرطقته بشكل مبدع، وذلك من خلال اعادة الاعتبار الى الهراطقة في البوسنة، وبالتحديد الى الكنيسة البوسنوية في القرون الوسطى، التي اعتبرتها «هرطقية» كل من القسطنطينية وروما، لانها لم ترض أن تكون ارثوذكسية أو كاثوليكية فقط. وفي الواقع، لقد شكّلت هذه الكنيسة الاساس لاستقلال البوسنة في القرون الوسطى ما بين صربيا الارثوذكسية وكرواتيا الكاثوليكية، التي تشترك معهما في اللغة الواحدة، وبقيت حاضرة في الوجدان الشعبي وشاخصة بشواهد قبورها المميزة حتى بعد اعتناق غالبية السكان للاسلام بعد الفتح العثماني للبوسنة في 1463. ومن هنا يلجأ دزدار الى هؤلاء النائمين تحت الاحجار (الشواهد الحجرية) ليستنطق منهم روح البوسنة وتاريخها الشعبي، أو غير الرسمي. فقد كان أتباع الكنيسة البوسنوية ملاحقين بتهمة «الهرطقة»، وبعد القضاء على الدولة والكنيسة البوسنوية، أصبحت كتب المنتصرين هي المصدر الذي يقدم الصورة السلبية عنها. يعمد دزدار ببراعة إلى إعادة الاعتبار الى «الهرطقة»، وإلى الاعتماد في أشعاره على سطر مما هو مكتوب على «نائم الحجر» ليكمله بقصيدة تعبّر عن روحه المنشقة عن النظام الشمولي الجديد الذي لم يحقق ما كان يَعِد به للبوسنة. ففي قصيدة «نص عن الزمن» يأخذ البيت الاول من الشاهدة او البلاطة الحجرية لضريح موجود قرب بلدة لوبينيه لينسج منها قصيدة رائعة تخترق الزمن : منذ عهد بعيد تمددت هنا قبل أن تكون أنت / وبعدك / سوف أتمدد لعهد قادم / منذ عهد بعيد / غطّت الاعشاب عظامي / منذ عهد بعيد / كسا الدفء لحمي / منذ عهد بعيد / حظيت بآلاف الاسماء / منذ عهد بعيد / نسيت اسمي / منذ عهد بعيد تمددت هنا قبل أن تكون أنت / وبعدك / سوف أتمدد لعهد بعيد. ومن ناحية أخرى يعتمد دزدار على ما بقي في الوجدان الشعبي من ايمان بالقوى الخارقة ل «النيّام تحت الاحجار»، حيث يذكر وهو طفل كيف انه شارك مع عائلته المسلمة في طقوس بإحدى المقابر لاستهطال المطر، حيث شاهد هناك كيف تقوم النساء المسلمات ببرد الشواهد الحجرية للقبور إيماناً منهن بقدرتها على الشفاء من الامراض المختلفة. وهكذا يستفيد دزدار من هذا الموروث الشعبي المختزن ليوصل رسالة أمل الى الحاضر الباحث عن أمل جديد: أنا ميّت / ميّت / لكن مع موتي / فإن العالم / لم يمت. ومع سعي دزدار بهذه «اللعبة الابداعية» الى اعادة الاعتبار للهرطقة القروسطية في الدولة الشمولية الجديدة، فقد حرص على الغوص في اللغة القروسطية للهراطقة حتى أصبح شعره مثقلاً بالرموز التاريخية والجغرافية التي تستدعي تقافة البوسنة في القرون الوسطى، ولكنها تجعل شعره في غاية الصعوبة حين ترجمته الى اللغات الاخرى. جاءت الترجمة العربية التي أنجزها الروائي والمترجم الاردني الياس فركوح لتحمل تحديين اثنين : ترجمة أشعار دزدار نفسها العسيرة على الترجمة، والترجمة من اللغة الإنكليزية. وفي الحقيقة قد تكون الترجمة الإنكليزية خدمت بشكل ما، لان من أنجزها (فرانسيس جونز) اشتغل سنوات طويلة على دراسة دزدار وكل ما يتعلق به، حتى أصبحت مساعدة على الاقتراب من عالم دزدار الصعب. وبالاضافة الى ذلك، ساعد الترجمةَ العربية أن من أنجزها مبدع له تجربة طويلة في الترجمة، ومما يؤكد على ذلك مقدمته للترجمة العربية التي تشهد على مدى «خيانته لخيانة الترجمة» واستغراقه في عالم دزدار المعقد الذي نجح في أن يوصله الى القارئ العربي في معظم قصائده على الاقل، حيث إنه يعترف بتركه لقصيدتين غير قابلتين للترجمة. وفي الحقيقة هذا نجاح كبير، لان الاكاديمية البوسنوية المتخصصة في دزدار أدلينا ابريشيموفيتش اعترفت في ورقة لها أثناء الندوة أن شعر دزدار صعب الترجمة، بل انه غير قابل للترجمة.