لم تكن مطالبة الأكراد العراقيين بتغيير العلم العراقي جديدة وان كان الجديد فيها ما وصف في الأوساط السياسية في بغداد بپ"قرار الأمر الواقع"الذي أعلنه مسعود بارزاني أخيراً بمنع رفع العلم العراقي داخل حدود الإقليم، وفيما يتجاوز الإجراء الكردي دلالاته المباشرة بشأن العلم الى تفجير جدل جديد حول قضايا"الفيديرالية"وپ"مصير كركوك"وپ"استقلال إقليم كردستان"، يؤكد مراقبون ان مشكلات الإقليم الكردي الداخلية تبرر خطوة بارزاني كنوع من الإسقاط السياسي. وتفاوتت ردود الفعل حول الإجراء الكردي الأخير فبلغت ذروتها بمطالبة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ان يكون"علم العراق الحالي هو العلم الوحيد الذي يجب رفعه فوق كل شبر في العراق"بعد يوم واحد من رد فعل حكومي"اقل تشدداً"جاءت على لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة علي الدباغ أعقبت تصريحات نارية لقادة سياسيين من كتل مختلفة اعتبرت بمجملها القرار"خطوة جدية نحو الانفصال"رد عليها بارزاني بالتلويح ب"الانفصال". وعلى رغم ان النسق السياسي في عراق ما بعد الاحتلال يطرح"القضية الكردية"كأزمة مفصلية ترتبط بسعي الأكراد واقعياً الى تهيئة ظروف انفصالهم عن العراق عبر عنها بارزاني في تصريح اكد فيه"ان كردستان سيعلن انفصاله في حال اندلعت الحرب الأهلية بين السنة والشيعة في العراق"، فإن مخاوف - مساعي الانفصال الكردي ترتبط ايضاً بخلل سياسي شهدته الأشهر الماضية وافترض صراعاً برأسين سنة وشيعة يتبنى الأكراد خلاله موقف"الحياد"و"جمع الفرقاء"وان كان بارزاني ألغى هذا الحياد أخيراً عندما اكد ان"الأكراد لن يستمعوا لمصالحة وطنية عراقية على حساب مصالح الأكراد". علم العراق... لا يختلف عَلَم العراق في تكوينه وألوانه او حتى في تاريخه عن أعلام العديد من الدول العربية لكن الجدل بشأنه ظل مستمراً بعد إقراره على يد قادة انقلاب عام 1963 وهم ضباط وبعثيون كانوا يطمحون للانضمام الى الجمهورية العربية المتحدة فاختاروا علماً مشابهاً لعلم الجمهورية مع اضافة نجمة ثالثة لترمز الى العراق، اضافة الى النجمتين اللتين ترمزان الى سورية ومصر. لكن النجمات الثلاث تحورت غايتها لاحقاً لترمز الى محافظاتالعراق الرئيسية بغداد، الموصل والبصرة لدى البعض او الى التكوينات الاجتماعية سنة، شيعة وأكراد ثم اقدم الرئيس العراقي السابق صدام حسين الى اضافة عبارة"الله اكبر"بخط يده الى العلم مطلع التسعينات. والقلق في شأن العلم ارتبط بقلق آخر في شأن السلام الجمهوري والنشيد الوطني. والأخير تغير ايضاً اكثر من مرة أبرزها مطلع الثمانينات عندما الغي نشيد"موطني"لمصلحة نشيد"وطن مدّ"الذي يتضمن عبارات تعبوية تشير الى الحرب العراقية - الإيرانية. ويورد مسؤولون سابقون في نظام صدام حسين ان النظام كان يرغب منتصف التسعينات بتغيير العلم والنشيد الوطني، وكلف بالفعل فنانين وشعراء وملحنين بإعداد شعار وعلم ونشيد للعراق، إلا ان الحرب الأخيرة باغتت هذا التغيير. وعلى مستوى المجلس الوطني في النظام السابق كانت القضية ايضاً مثار جدل عندما اقترح برلمانيون آخر التسعينات إجراء تعديلات في العَلَم العراقي تتضمن تحويل النجمة الخماسية الى نجمة ثمانية لتكون اكثر انسجاماً مع التاريخ العربي الإسلامي. علماً ان نجل الرئيس العراقي السابق عدي صدام كان قاد حملة لتغيير النشيد الوطني وطرح مسابقة بهذا الشأن اشترك فيها الفنان العراقي كاظم الساهر الذي اعلن في وقت سابق انه عمل على هذا النشيد سنوات عدة. وبعد الحرب، عام 2003، طرح مجلس الحكم العراقي مسابقة جديدة لاختيار تصميم جديد للعلم العراقي الذي كان حتى ذلك الوقت قاوم محاولات إبداله في حين لم يصمد النشيد الوطني الذي انسحب رسمياً لمصلحة النشيد الأصلي"موطني". وقدم الفنان العراقي المغترب رفعت الجادرجي تصميماً جديداً للعلم العراقي اخذ عليه إعلامياً وشعبياً انه مشابه الى حد كبير لتصميم وألوان العلم الإسرائيلي ما احبط هذه المحاولة ايضاً. حكومة أياد علاوي من جهتها كلفت عام 2004 وزارة الثقافة التي ترأسها آنذاك مفيد الجزائري، بالإعلان عن مسابقة جديدة للعلم لم يجرؤ العديد من التشكيليين على المشاركة فيها بعد ان بدأت أعمال العنف تتعاظم في العراق. مجازر تحت العلم ويقول رئيس اقليم كردستان، مسعود بارزاني، ان"العلم العراقي الحالي ارتكبت تحت ظله مجازر النظام السابق بحق الأكراد". ويجيب على ذلك بيان لحزب البعث جاء فيه ان"بارزاني استدعى عام 1996 قوات الحرس الجمهوري العراقي التي ترفع هذا العلم نفسه لإنقاذ اربيل من هجمات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال طالباني ولم يتذكر يومها ان العلم يعد رمزاً للاضطهاد الكردي!". لكن عراقيين رسميين اتفقوا على ان إثارة قضية العلم في هذا التوقيت لا علاقة لها بما تعرض له الأكراد من مجازر على يد النظام السابق. ويقول فاضل الشرع، المستشار السياسي لرئيس الوزراء العراقي، ان"بارزاني اختار توقيتاً خاطئاً لإثارة أزمة"، كما انه"يحاول ترحيل مشكلات الإقليم الداخلية عبر إيجاد قضية تجمع الأكراد"، لافتاً الى ان قرار إنزال العلم لا يعد ضربة للعرب العراقيين فقط وانما للأكراد المشاركين في الحكومة يتقدمهم الرئيس جلال طالباني". واستناداً الى هذا التحليل الأخير، فضلت حكومة المالكي تجنب تصعيد الموقف مع بارزاني بل و"إهمال القضية برمتها"على حد تعبير مقرب من الحكومة فضل عدم الإشارة الى اسمه. ويربط سياسيون آخرون الخطوة الكردية الأخيرة بسعي حثيث نحو الانفصال. ويقول رئيس"كتلة الحوار"في البرلمان العراقي صالح المطلك ان مثل هذا الإجراء يعني بالضرورة ان الأكراد"يحاولون استثمار الضعف في الحكومة المركزية لتحقيق استقلال فعلي عن العراق ينتظر ضم كركوك الغنية بالنفط". ويذهب سعد عاصم الجنابي، رئيس الحزب الجمهوري الى الرأي نفسه عبر تأكيد"ان إجراء إنزال العلم ينسجم مع رغبة كردية ملحة بالانفصال عبر عنها بارزاني أخيراً بإعلان انفصال الإقليم في حال نشبت حرب أهلية". وانطلاقاً من تصريح بارزاني وجه سياسيون ورجال دين أصابع الاتهام للأكراد في التورط بأحداث العنف في العراق تمهيداً للانفصال وهو ما نفته الحكومة الكردية بشدة على لسان عدنان المفتي، رئيس البرلمان في الإقليم الذي قال ان"إنزال العلم حق للشعب الكردي".. ولا يمثل رغبة بالانفصال عن العراق. مشيراً الى ان"خطوة الدولة الكردية المستقلة ما زالت هدفاً كردياً لكن الأكراد واقعيون ويعرفون ان الظروف الدولية والإقليمية والمحلية غير متاحة لتقبل دولة كردية وسط المنطقة". حراك في اربيل اللافت في مجمل القضية التي اثيرت بشأن العلم ان المدن التي تقع تحت اشراف الحزب الديموقراطي الكردستاني برئاسة بارزاني وأهمها اربيل ودهوك لا ترفع منذ سقوط النظام السابق علم العراق الحالي وانما علم اقليم كردستان فقط على عكس محافظة السليمانية التي يشرف عليها طالباني والتي ترفع العلم العراقي في مؤسساتها الرسمية. ما يشير الى ان القرار سيطبق عملياً في محافظة السليمانية فقط. ويشير سياسيون اكراد الى ان توحيد الإدارتين الكرديتين في 7 آذار مارس الماضي لم ينه التنافس واحياناً التناحر بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، وان بارزاني الذي دعم طالباني بقوة للوصول الى سدة رئاسة العراق يحاول إنهاء أي تداخل في الصلاحيات بين السليمانية واربيل لمصلحة الحكومة الكردية التي ظلت بعض الوزارات فيها معلقة بانتظار إنهاء الإشكالات التي تعيق دمجها. واربيل التي وصفت مراراً بأنها عاصمة دولة بكل المقاييس، تحاول ايضاً ترجمة حال الاحتضان التي نالها الزعماء الأكراد على المستوى الدولي وتوجت باستقبال رسمي غير مسبوق للزعيم مسعود بارزاني في واشنطن، الى واقع عملي يؤسس لمرحلة زمنية طويلة تكون الظروف الدولية والإقليمية فيها تهيأت لاستقبال دولة جديدة. وعلى رغم ان الأكراد لا يعترضون على التحليل الأخير لحضورهم السياسي، لا يربطون سعيهم لتكوين دولة بمخطط معد مسبقاً وانما يقولون ان الظروف هي التي ستحكم القضية برمتها اضافة الى شكل العلاقة مع بقية أطراف العراق وان كانت هذه العلاقة ستضمن مصالحهم القومية على المدى الطويل، باعتبار ان الأكراد لديهم شكوك تجاه حكومة بغداد وتكرار تجربة الدولة المركزية الديكتاتورية. وفي أجواء الشكوك المتبادلة تلك شهدت المرحلة التي سبقت إعلان إنزال العلم حراكاً سياسياً ناشطاً في مصيف صلاح الدين، مقر بارزاني ويمكن إحصاء جملة من اللقاءات عقدها الأخير قبل إعلان قراره بأسبوع أبرزها لقاؤه السفير الإيراني في العراق اضافة الى وفد من الحزب الإسلامي برئاسة محسن عبدالحميد ووزير الداخلية جواد البولاني وأعضاء المكتبين السياسيين للحزبين والسفير البريطاني الجديد ووفود سياسية تمثل معظم الكتل البرلمانية العراقية. الفيديرالية وكركوك والقرار الكردي ايضاً يأتي متزامناً مع جهود حكومة المالكي لتحقيق المصالحة الوطنية، على خلفية تأجيل النظر بقضية الفيديرالية لمدة خمس سنوات كشرط طرحه المسلحون والجهات الرافضة للعملية السياسية للدخول في مفاوضات بشأنها، ما يوجه ضربة الى الجهود الكردية لتحويل ما يمكن اعتباره"فيديرالية الأمر الواقع"التي حققوها في العراق الى"نظام دستوري دائم معترف به دولياً لا يشمل كردستان وحدها وانما كل العراق". وربما كان وصف بارزاني بپ"مصالحة لا تحقق مصالح الأكراد"يندرج ضمن هذا المفهوم. وعلى ذلك يغدو حديث الأكراد عن دستور خاص ونظام سياسي واداري مستقل لا يعدو كونه"جهداً فردياً"لا يحظى باعتراف دستوري عراقي صريح يبدد مخاوف الأكراد بإمكان تحطم إنجازاتهم التاريخية. وتبقى قضية كركوك المعلقة بانتظار حل يضمن تطبيع أوضاعها قبل إخضاعها الى الاستفتاء بالانضمام الى إقليم كردستان او العودة الى الحكومة المركزية، في نطاق الشكوك المتبادلة ذاتها اذا اخذ بالحسبان ان طبيعة الحل ستثير جدلاً مطولاً اياً كانت اتجاهاته. وتشير تسريبات عن فحوى الدستور الكردي المزمع إعلانه قريباً الى انه يصنف كركوك جزءاً من الإقليم اضافة الى مناطق اخرى في ديالى والموصل وصلاح الدين انسجاماً مع الطروحات الكردية العامة. ومثل هذا النص لو انتقل من صيغته السياسية والإعلامية الى صيغة ينص عليها دستور الإقليم، فإنه سيثير أزمة دستورية عميقة لكونه يستبق الحل في إطار الدستور العراقي في المدينة التي ستظل هويتها معلقة الى حين انتهاء أعمال التطبيع, ما يندرج ايضاً في أي قراءة موضوعية لقضية"العلم"التي قلل الرئيس العراقي جلال طالباني من أهميتها وانتقد في بيان صدر الاثنين الجهات الإعلامية والسياسية التي قرأت قرار بارزاني بصورة"مجتزأة"و"غير منصفة"، واصفاً العلم الذي أقر إنزاله في إقليم كردستان بأنه علم"صدام"وليس"علم العراق". طالباني بين علمين ويبدو ان موقف الرئيس العراقي جلال طالباني اكثر حساسية ودقة من موقف رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لكون الأول يفترض ان يعبر عن مجمل مصالح العراقيين اضافة الى توصيفه كزعيم حزب سياسي كردي. وعلى رغم ان بيان"الشجب"الذي أصدره على مكتب الرئيس طالباني ظهر اكثر حدة من المتوقع والمعهود في تعليقات رئيس الجمهورية، فإن طالباني الذي ظل مثابراً على رفع العلم العراقي الحالي في مكتبه في بغداد او السليمانية وايضاً في المؤسسات الرسمية، يغدو بعد قرار رئاسة إقليم كردستان رفع علم ثورة 1958 في العراق بديلاً من العلم الحالي في المناسبات، ان يجد حلاً للمفاضلة بينها. الأول علم إقليم كردستان الذي يرفعه الى جانب العلم العراقي في مقره في السليمانية باعتباره زعيم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والثاني هو العلم العراقي الحالي الذي لن يجد بداً من رفعه بمكتبه في بغداد بخاصة انه لا يزال العلم الرسمي للعراق، والثالث علم ثورة 1958 الذي سيكون عليه رفعه خلال تواجده في السليمانية الى جانب العلم الكردي اذا أراد الالتزام بقرار رئاسة إقليم كردستان، فيما سيكون عليه رفض قرار بارزاني اذا أصر على رفع العلم الحالي خلال تواجده داخل السليمانية. وتلك المحنة ربما يمكن القياس عليها في مجمل الشأن العراقي المتأرجح بين"افكار"تنتظر التنفيذ و"أمر واقع"يفرض نفسه بين الحين والآخر ليغير في شروط معادلة تزداد تعقيداً.