على مدى أربعة قرون ونصف ظلت كتابات فرانسوا رابليه مثيرة للجدل، بين معجبيه ومناوئيه، في المحافل الثقافية والسياسية والدينية، وكانت لغته الصعبة تمنحه ألواناً متغيرة، تساعده على الظهور والاختفاء معاً، مصحوباً بتحولات تشبه المناورات الملتبسة، التي تستمد قوتها من شخصيته المؤثرة، المتغيرة، المزعجة والغامضة، ثم المنفلتة من قواعد الكتابة والسلوك والتقاليد، فهو متعدد المعاني ومتعدد الأصوات. يقال إن رابليه ولد عام 1493 أو قبل سنوات من هذا التاريخ، ودخل في سلك الرهبنة الفرنسيسكانية في مونبلييه، ثم تحول إلى البنيديكتية، قبل أن ينصرف إلى دراسة الطب وممارسته في ليون إلى جانب احترافه الكتابة، حيث راجت في ذلك العصر روايات الفروسية، التي أضاف إليها شخصيات العمالقة، وسبق بذلك ثربانتس وروايته الشهيرة دون كيخوته بنحو ثمانين عاماً، وكان تأثيره واضحاً على عدد من الكتاب الذين عاشوا بعده، ومنهم جوناثان سويفت الذي أخذ لقب"رابليه الانكليزي"عن رائعته"رحلات غوليفر"، التي تجرى أحداثها في بلاد العمالقة وبلاد الأقزام، وانسحب هذا التأثير على الكاتب الألماني اريك راسب في"مغامرات البارون مونشهاوزن". وعلى امتداد القرون الماضية أشيع أن قراءة رابليه تحتاج إلى مفاتيح من لغات أخرى غير الفرنسية، وأن أعماله غير قابلة للترجمة، ولهذا السبب، أو لأسباب أخرى لم يترجم أي من أعماله إلى العربية قبل أيام، لكن أهم أعماله"غرغانتوا"و"بانتا غروئيل"صدرتا بالعربية للتو، في سلسلة الكتاب الشهري عن وزارة الثقافة في دمشق، بترجمة موثقة وجريئة من الأكاديمي السوري أنطون حمصي. أُدين رابليه في حياته، فكان يتهرب ويتخفى، ويلوذ بالصمت والمناورة ثم يستعيد حكاياته بعد أن تمر العاصفة، وظلت الإدانات تلاحقه بعد وفاته، ولم يجد من ينصفه إلا في القرن التاسع عشر، وجاءه الإنصاف على ألسنة كبار الكتاب الفرنسيين إلى جانب مفكرين ونقاد أعادوا قراءة الماضي مع حركة التحديث في الأدب الأوروبي، ومنهم فيكتور هيغو، الذي رأى فيه"ضحاكاً مخيفاً"وحكى فلوبير عن"رابليه القدوس، الهائل، الفائق الجمال"، وكانت أعمال رابليه مصدراً متجدداً للكتاب الذين يملكون قريحة هجائية، فهو لاعب ساحر باللغة، أو اللغات، يتحكم بها، ولا تتحكم به، يرسل من خلالها إشاراته، وغمزاته، التي تتداخل مع حكايات العمالقة بشخصياتهم التي تحتمل الأساطير والمعجزات. "غرغانتوا" قبل المقدمة، في"غرغانتوا"يدعو رابليه القراء إلى الضحك، لأنه لا يستطيع أن يختار لهم موضوعاً آخر، وهم في حالة حداد:"الكتابة عن الضحك أفضل عن الدموع، لأن الضحك هو سمة الإنسان، عيشوا فرحين". تتشكل رواية غرغانتوا من ستة وخمسين فصلاً قصيراً، لها عناوين مطولة، تبدأ بفصل عن نسب غرغانتوا وأصوله القديمة، وما له من صفات العمالقة الذين تصنعهم الأساطير وخيالات الشعوب، وترصد مآثره وتقاليده، فالعمالقة يختلفون عن الآخرين، منذ البداية، حيث ظل غرغانتوا في بطن أمه أحد عشر شهراً، وولد بصورة غريبة، وظهرت عليه ملامح الذكاء مبكراً، فاخترع ممسحة... وتعلم اللاتينية وأصول التربية، وزار باريس على ظهر فرس عملاقة قادمة من أفريقيا، وعاد من باريس ومعه الأجراس الضخمة لكنيسة نوتردام، وكان له نمط حياة منتظمة بحسب أساليب معلميه السوربونيين، وظهرت مآثره وبطولاته وتسامحه بعد انتصاره في الحرب التي شنها وهزم فيها الملك بيكروشول، بتحريض من حاشيته، وكانت قذائف المدفعية تتساقط من رأسه حينما يمشط شعره، أو يلتهم ستة من الحجاج الذين كانوا مختبئين بين أوراق الخس العملاقة، كان غرغانتوا ضد الحرب، ولكنه اضطر إلى خوضها، وحينما انتصر تعامل مع الأسرى باحترام نادر. "بانتا غروئيل" صدرت الطبعة الأولى من هذه الرواية، في ليون، بعنوان"بانتا غروئيل الوقائع والمآثر الهائلة والمخيفة جداً لبانتا غروئيل ملك الديسبود، ابن العملاق الكبير غرغانتوا، ألفها مؤخراً المعلم الكوفريباس نازييه". وتتشكل هذه الرواية من أربعة وثلاثين فصلاً، تبدأ بالبحث عن أصل بانتا غروئيل وموت أمه بادوبيك أثناء ولادته، حيث وقف أبوه غرغانتوا حائراً لا يعرف هل يفرح بولادة ابنه الجميل والكبير جداً، أم يحزن بموت زوجته ابنة ملك الأموروت، في المدينة الفاضلة التي كتب عنها توماس مور؟ ويكبر الطفل المعجزة، العملاق، ويسافر إلى باريس ليؤلف مكتبة سان فيكتور، وهناك تعرف إلى بانورج الحكيم والمجادل الذي لا يقهر، فأصبح صديقه الدائم، وأحد أهم أتباعه الذين لا يُقهرون، وهم الذين انتصروا على شعب النيسبود والعمالقة الآخرين، وحينما تعرضوا لوابل غزير من المطر مدّ نصف لسانه ليغطيهم، حينها صعد المؤلف إلى لسانه مسافة طويلة ورأى مروجاً وغابات ومدناً..."عند ذلك، تذكرت بانتا غروئيل عندما كان يتثاءب، وكيف كان الحمام يدخل أسراباً إلى فمه ظناً منه أنه برج حمام". لسان بانتا غروئيل هنا صار رمزاً"للالتهام"، استخدمه الفنان الفرنسي دومييه في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث رسم الملك لويس فيليب بهيئة عملاق له لسان طويل يشفط به أموال الناس من حوله، وكان ذلك سبباً في إغلاق مجلة الكاريكاتور التي نشرت الرسم، وسجن دومييه ستة أشهر. في عام 1532 نشر رابليه كتاب"رسائل ماناردي الطبية"، الذي ضم خبرته وتجاربه المكتسبة في الطب والحياة، ثم نشر"وصية كرسبيدوس"وهي وصية قيل إنها مزورة، ببراعة، وهي تحمل إعجاب رابليه بالعصور القديمة وميراث الإمبراطورية الرومانية، كما نشر رواية"بانتا غروئيل"، وبعد عامين من ذلك نشر رواية"غرغانتوا"وپ"طبوغرافيا روما القديمة"، من وحي زياراته إلى روما واهتمامه بجذور الثقافة والفنون في إيطاليا، وكانت مدينة ليون بوابة فرنسا وأوروبا إلى إيطاليا. وبعد وفاته عام 1553 بعشر سنوات ظهر كتابه"الجزيرة الطنانة، الذي أعيدت طباعته بعد عامين في نص مطول، حيث أضاف إليه الناشرون مسودات من كتاباته أو نصوصاً مشابهة. وتوصف كتابات رابليه، أو لغته، بأنها هذيانية متقلبة، تصهر الخرافات الشعبية والأساطير والتنبؤات الغريبة، التي تحمل جاذبية خاصة، لما فيها من مستويات مختلفة من الشطح والتهريج الملغز والمبالغة في حدودها القصوى. رابليه في القرن العشرين في عام 1968 - عام الثورات الطلابية في فرنسا وأوروبا - قدم المخرج والممثل والكاتب الفرنسي جان لوي بارو 1910 - 1994 مسرحية غريبة من فصلين بعنوان"رابليه"أعدها عن الكتب الخمسة، وكتب مقدمة لهذه المسرحية، تحمل تجربة جريئة في إعادة قراءة رابليه، جاء فيها:"ليس ثمة إنسان أكثر فرنسيةً من رابليه، من جهة العيوب أو الميزات أو الضعف أو العبقرية، وربما لهذا السبب استطاع قومه السويين، قبل أربعة قرون، أن يمتثلوا لما قاله ميشليه عنه، بأنه يشكل المثالية المعتدلة للسلوك الفرنسي، واستطاعوا أن يخفوه عن الأعين وكأنه وحش يسبب بعض الإحراج للعائلة، ليتمكنوا من قتله نهائياً، ولكن رابليه كان فيزيائياً ماهراً، وهو يعلم تماماً بأن التزمت الفكري يسبب الصداع، وآلامه تعادل آلام الأمعاء، ومن جهة أخرى، كان يعلم بأن المتعة تريح وتشفي العليل...". وانصب اهتمام بارو على سبر"الروح الداخلية"لرابليه، وهي مهمة صعبة، خاصة في عملية تحديث لغته، فالتحديث يعني إخماد هذه اللغة، لكن إبقاء هذه اللغة كما هي يعني تركها بعيدة عن متناول الأذن الحديثة. ويرى بارو أن رابليه لم يكن منطوياً، وإنما يتطلع إلى العالم الواسع، وهو"تلميذ أبدي، عنيد، مخادع وقلق"، ومع إخلاصه للتقاليد، قادته مزاجيته إلى أن يكون مختلفاً، بين الذين يحاربون الأفكار الجديدة،"وهذه نقطة الاتصال المعقولة بيننا وبينه"، وهو متقلب كبير، له وجه إنساني واضح،"وشعر صادق، وجوع للمعرفة، وحسن وصفاء وحب للحياة".