في كل مرة تحل فيها ذكرى كارثة القنبلتين النوويتين الأوليتين في التاريخ اللتين ألقاهما الأميركيون على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بشكل مجاني ما أسفر عن تدمير حياة مئات الألوف من البشر المدنيين، يتذكر أهل السينما، على الفور، فيلم، آلان رينيه الروائي، الطويل الأول"هيروشيما... يا حبي"، على اعتبار أنه الفيلم الذي أيقظ ذكرى الكارثة وقال، من دون أن تكون تلك هي المرة الأولى، كلمة الفن والفكر في المأساة. ومع هذا، كما سبق وأشرنا في مقال سابق في هذه الزاوية، لا يمكن القول إن فيلم رينيه كان حقاً عن هيروشيما وقنبلتها. فكانت هناك أفلام عدة قبل فيلم رينيه، وستكون هناك أفلام عدة بعده. وهي كلها على عكس"هيروشيما... يا حبي"دَنت من الجريمة الأميركية في اليابان دنواً مباشراً مصوّرة فظائعها والآثار الجسدية والمدنية والنفسية التي نتجت عنها. في المقابل ليس في فيلم آلان رينيه أي شيء من هذا. كل ما في الأمر، أن كارثة هيروشيما تبدو طوال زمن الفيلم، طيفاً محلقاً بضراوة في فضاء العلاقة الغرامية التي يجب أن تقوم في الفيلم بين مهندس ياباني عاش كارثة هيروشيما، وممثلة فرنسية عاشت الحرب في مدينتها الفرنسية نيفير، لكنها تأتي الآن الى اليابان كي تقوم ببطولة فيلم يجري تصويره للكارثة بشكل مباشر. اذاً ليست الكارثة سوى خلفية مزدوجة للفيلم: من ناحية هي"المظلة"المتبقية لحياة الشاب الياباني، ومن ناحية ثانية هي الصورة التي يجب أن يلتقطها الفيلم الذي يجري تصويره. ومن هنا تتخذ أهميتها الفائقة، ودورها الأساس، تلك العبارة التي لا يفتأ المهندس الشاب يهمس بها في أذن حبيبته الممثلة بين الحين والآخر، أنت لم تري شيئاً من هيروشيما". ونعرف أن هذه العبارة ستظل تطرق البال دائماً... ستبقى طويلاً حتى بعد أن تُنسى قصة الفيلم وينتهي تحسر المحتسرين على حكاية الحب التي لم تصل الى غايتها بين المهندس والممثلة. لسنا، اذاً، هنا في صدد فيلم يحكي ما حدث في هيروشيما، ولا عما حدث بعد كارثتها. نحن بالأحرى أمام فيلم يكاد سؤاله الأساس - والذي لا جواب له - هل هناك، حقاً، حياة وحب بعد هيروشيما؟ والسؤال ينطلق من تلك العلاقة المستحيلة بين كائنين ستظل هيروشيما سيفاً فاصلاً بينهما. ولأن السيف هذا طيف لا يمكن تحويله الى صورة مادية، وإلا فقد هيمنته، لا نرى في الفيلم هيروشيما على الاطلاق. ومع هذا كان المشروع، أول الأمر، مشروعاً يتعلق بفيلم عن هيروشيما والقنبلة النووية والدمار والقتل وما الى ذلك. والمشروع ولد لدى منتجي فيلم سابق للمخرج آلان رينيه هو"ليل وضباب"التسجيلي الذي تحدث، بروعة، عن المحرقة الألمانية لليهود في أوروبا - ولا سيما بولندا -، كان أول عمل كبير يدنو من تلك المحرقة بشكل فني انساني، لا من منطلق دعائي ايديولوجي كما ستكون حال معظم الأفلام التي دنت من تلك القضية. كان نجاح"ليل وضباب"ونزاهته الفكرية ما حمّس المنتجين على الانتقال الى كارثة أكثر اثارة للرعب، كارثة هيروشيما. وحين عرض الأمر على رينيه، رأى، كما سيقول بنفسه انها فرصة سنحت له كي يحقق أول فيلم روائي بعدما كان حقق أفلاماً تسجيلية عدة. والحقيقة أن كل مغامرة"هيروشيما... يا حبي: التالية تقوم على هذه الفكرة: فكرة استحالة تحقيق فيلم عن هيروشيما. في البداية عرض رينيه الفكرة على فرانسواز ساغان التي كانت نجمة صاعدة في سماء الأدب الفرنسي في ذلك الحين... ساغان أوردت بعض الأفكار، ولكن يبدو أنها كانت من العادية - وكان هذا أمراً طبيعياً من لدن كاتبة من طرازها -، بحيث رفضها رينيه كلياً. فهو كان في ذلك الحين قطباً من أقطاب الموجة الجديدة، وكان يتوق الى استخدام فن السينما استخداماً جديداً... لا تقليدياً. وكان قد وضع في رأسه، منذ البداية، أن يكون فيلمه حقاً فيلماً عن حضور هيروشيما في غيابها ترى هل كان ممكناً لكاتبة مثل فرانسواز ساغان أن تخوض لعبة فكرية كهذه؟. وهنا، اذ انسحبت صاحبه"صباح الخير أيها الحزن"من المشروع،"وقع"آلان رينيه على مرغريت دورا. وهذه، فهمت الفكرة خلال ثوان، لتبدأ تلك الكتابة المدهشة للسيناريو - وخصوصاً للحوار - الذي استغرقها انجازهما تسعة أشهر. بسرعة اذاً فهمت دوراً ليس فقط ما يريده آلان رينيه، بل خصوصاً ما يمكن قوله عن هيروشيما في فيلم سينمائي. وهكذا تضافرت جهود السينما والكاتبة، لينتج عن ذلك، هذا الفيلم الذي مر كالنيزك المستوحد في سماء السينما العالمية. للوهلة الأولى قد يبدو الفيلم ثرثاراً رتيباً. اذ انه، في الحقيقة، من الأفلام التي لا يحدث فيها شيء. بل ان الأهمية القصوى هنا هي للأحداث وللصورة الغائبة. لذلك الإلحاح الذي يعيشه"البطلان"وسط أحدث يجمعهما، وصورة لا يجرؤ أي منهما على ولوجها بصرياً فيخوضها لفظياً. ومن نافل القول إننا لا نشاهد في هذا الفيلم حدث هيروشيما نفسه. ثمة فقط إشارات وتقاصيل تنم عنه: مثلما يحدث في الرواية حين تعبر الكلمات معددة سمات الحدث في تفصيل يدخل القارئ - المشاهد/ المستمع هنا - في تفاصيل التفاصيل، فيعيش الحدث بكل جوارحه، وكأن عيشه له، يصح جواباً على تأكيد المهندس الشاب لحبيبته الممثلة بأنها لم تر شيئاً في هيروشيما. لكن الممثلة وتلعب دورها في الفيلم ايمانويل ريفا كانت رأت كل شيء في نيفر، مدينتها التي تعرضت الى الدمار والموت الجماعي تحت وطأة الهجوم النازي ثم رد الحلفاء. وبهذا تختلط في الفيلم هيروشيما ونيفر. واضح هنا، وكما كتب الناقد اندريه بازان مؤسس"كراسات السينما"الفرنسية حين عرض الفيلم ان"القوة البرهانية في هذا الفيلم تأتي من المسافة الشعورية التي تفصل بين كارثة تاريخية، يمكننا أن نقول عنها إنها كونية، طالما أنها أحدثت انقلاباً شاملاً في مصير الشعوب، وبين تجربة إنسانية ضيقة، تكاد تكون ريفية، لكنها - مع هذا - أساسية في مفعولها على جوانيّة صاحبتها". فمن ناحية لدينا رجل هادئ، مسيطر على نفسه، يبدو لنا عصيّاً على أن نتسلل الى أعماقه، لولا أن المخرج قد حرص على أن يغيب سماته الأصلية خلف قناع رجل الأعمال"الغربي"لكنه مع هذا يحمل في داخله ذكرى تلك المحرقة اليابانية، ومن ناحية ثانية لدينا امرأة متحمسة ثائرة تحمل في أعمالها - وتعبر عنها بوضوح - آلام القوم الذين هم قومها متصوّرة إياها آلام كل الأقوام، لفرط ما عانت في نيفير. ومع هذا، يبدو لنا قادراً على أن يعيش في هيروشيما حياة تقرب من العادية، بينما هي لا تتحمل ولو فكرة أن تعود يوماً لتعيش في نيفير، المدينة التي شهدت فيها"كل"عذابات البشر. وبينه وبينها، واضح أن الغاية الأساسية للفيلم هي إلغاء الزمن... فكل من المدينتين لا تزال - وكما في لحظة المأساة - تعيش حية في داخل مواطنيها، حتى ولو خيل اليهم انهم نسوا. النسيان مستحيل، وتكفي شرارة لبعث نار الكارثة من رمادها، ناراً لم تخب أبداً. من هنا كان واضحاً أن ما حققه آلان رينيه، انطلاقاً من نص وغريت دورا، لم يكن فيلماً عن الكارثة، ولا حتى فيلماً عن الذاكرة، بل عملاً عن الديمومة، عن الاستمرارية، عن حياة جوانيّة يخيل الى صاحبها أنه لا يعيشها، لكنها في الحقيقة لا يعيش غيرها، حتى ولو عاشها على طريقته الخاصة. المهندس الشاب يعيش بعد هيروشيما، لكنها هناك في داخله... الكارثة صارت جزءاً من كينونته لا حكاية يحكيها أو صورة يستعيدها."أن نتعايش مع الكارثة ونتابع حياتنا"، ذلك هو الدرس الأساس الذي يحاول المهندس الشاب ان يقوله لحبيبته الفرنسية. ذلك أن أحداثاً مثل تدمير هيروشيما، لا يمكنها أن تكون فصلاً في كتب التاريخ، أو ذكرى نحتفل بها مرة كل عام أو مئة عام، بل هي جزء من كينونتنا لا أكثر ولا أقل. وهذا هو في الأساس ما قاله مبدعا هذا الفيلم. وهذا هو مبرر عدم تحول هيروشيما ودمارها، الى مجرد صورة تمر وسط فيلم شاء لنفسه أن يكون في داخل الدمار، لا من خارجه. ونعرف أن من في الداخل لا يرى... بل يعيش. وهذا ما يجعل العبارة الأهم في فيلم آلان رينيه:"انت لم تري شيئاً في هيروشيما".