شيء من السذاجة، ومن الاستهانة بالذات، لدينا نحن اللبنانيين، يجعلاننا نسرّ كل هذا السرور بصورتنا عن شعب حيوي، يتقن إعادة الإحياء والإعمار. شيء من النرجسية أيضاً، تشبه نرجسية الجميلة البلهاء الواقعة في حبال صيّادها. التلفزيون، وكان هذه المرة"حياً"، كان له الدور الاقوى في إذاعة هذه الصورة. العرب اعجبتهم لعبة الفينيق الناهض من رماده دورياً... كل عقد تقريباً. راحة ضمير وتوظيف. أكد على ذلك عبد الحليم خدام، مهندس السياسة السورية قبل وفاة الأسد الاب. قال، متأخراًً، بأن الاسد قرر، بعد حرب 1973، بأن هذه الاخيرة سوف تكون آخر الحروب مع اسرائيل وبأن جبهة الجولان سوف تُغلق"و"استنزاف اسرائيل"سوف"يتم في لبنان"، عبر"تنشيط مقاومته الاسلامية". والفضل في هذه الساحة المحاذية في قدرتها على التعامل مع"العدو مباشرة"، برأي خدام ايضاً، يعود لل"حرية التي يتمتع بها اللبنانيون". بمعنى آخر: ان قدر اللبنانيين مع الدمار ومن ثم مع الإعمار وإعادة الإعمار هو ثمن الحرية التي يتمتعون بها، دون غيرهم من الشعوب العربية. ومنذ 1982، احد تواريخ الاحتلال الاسرائيلي للبنان، صار ايضا للايرانيين حصة من تلك الحرية النسبية الهائلة التي"يتمتع بها اللبنانيون"... والكل يواسي ضميره بإشاعة تلك الصورة عن اللبنانيين. واللبنانيون، كبشر، أي كضعفاء امام المديح، لا يستطيعون مقاومة إغراء هذه الصورة فينجرّون لقدرهم ولأغنيتهم المفضلة:"راجع راجع يتعمّر... راجع لبنان"، بعد كل جولة قتال، جولة إثر جولة. ليس هذا فحسب: بل يبدو لبنان خلف هذه الصورة الاسطورية كأنه بلد من حجر ومن صخر. الفينيق سوف يقوم من رماده"حسناً، أليس هناك ما ليس قابلا لإعادة الاحياء والاعمار؟ اعني الارواح المهدورة، موتاً او فراغ؟ لبنان بلد حجر وصخر. ميزة عربية. إسقاط عربي ايضا"وشهداؤه لا يحسبون إلا في ذيل قائمة الخسائر او الاهتمامات او الاولويات. تأكيدا على"النصر"الاخير ضد اسرائيل، يقلّل واحدٌ من العروبيين اهمية الضحايا بالارواح، فيقول:"اما الخسائر البشرية، فهي الثمن الذي يدفعه كل بلد من اجل رد العدوان والمحافظة على استقلاله ... عدد القتلى في العراق خلال الشهر الماضي كان 3438 قتيلا وهو اكثر مرتين من عدد قتلى فلسطينولبنان خلال نفس الفترة". من ساواك بنفسه ما ظلمك... هذا ما فعلته العروبة بحرية اللبنانيين! هذه الصورة تدغدغ نرجسية اللبنانيين وتنْفش ريشهم. لكنها تضعف لبنان، تضعف روحه، وتثبّته في الدائرة الجهنمية التي وقع فيها منذ تحوّله الى ساحة حل المشكلات الاقليمية المستعصية. فمذّاك، والحلقة لا تتوقف عن الدوران: هجوم على اسرائيل، رد اسرائيلي قاسٍ، توقف القتال، إعادة الاعمار، مساعدات، تدخلات"المساعدين"، ثم"تفاهمات"ملغومة... وهكذا حتى بلغنا ذروات: لكل بلد ميسور ساعدَنا كلمة فصل في خلافاتنا. فعندما يتوقف القتال، لا احد من المسؤولين عنه يراجع نفسه، بل يراوغ على الحل ويتلاعب ويرقّع ويفاوض بمهارة من لا يبوح بسرّه. ثم يأخذ إعادة الاعمار المجرى نفسه. فنعمل مثل مفصّلي الفساتين المهلهلة: نفصّل ونقصّ ونخيط بخيوط واهية... فلا نبني، بل نتلكأ. ننسج سجادة رائعة، لكننا نحسب انها لن تدوم... فلا يدوم عندنا الا المؤقت. ونستخف أكثر وأكثر بأنفسنا. فالتفاهم والحوار والانتخابات ومفاصل الحروب، لا تبدو لنا، في اعماقنا، من الامور الجدية والشفافة. بل تخضع للقص والتلصيق.... واهنة، مرقّعة وعَطوباً. هذه المرة، على اللبنانيين ان لا يبقوا اسرى هذا الغزل المتمادي بقدرتهم على إعادة الاعمار. اثبتت التجربة بأن التوظيف الصحيح لهذه القدرة ليست مرهونة بالمساعدات فحسب بل المساعدات تقيدها! ايضا... بل ايضا بطبيعة الاتفاق السياسي الراسي بين"الاطراف". مدى وضوحه وجديته ودقته. لا اتفاق فوقي كواليسي، ولا حوار"باب اول"... ولا بروتوكولات. بل حوار صريح، لا يخشى لا سلاح"حزب الله"ولا سلاح اسرائيل. من اجل التأكيد على ان الفينيق لن يعمّر هذه المرة"قص وتلصيق"ثم"ترقيع"، وان الحرب لن تعود ابدا ابدا، علينا بالبدء بطرح اسئلة على الذين اشعلوها، باعترافهم الشخصي، وبنفس الحرية التي سمحت لبلدنا بالوقوع في فخ حروب كهذه. على الذين تسبّبوا لفينيقنا بأن يستعد للنهوض مجدداً من رماده، ان يجيبوا"على الامين العام ل"حزب الله"، حسن نصر الله، ان يجيب عن تساؤلات كثيرة، اقلها تلك التي اثارها كلامه الاخير لتلفزيون"الجديد". يقول في هذا الحديث"الآن اذا سألتموني انني لو كنت اعلم بأن عملية الخطف هذه ستؤدي الى حرب بهذا الحجم بنسبة واحد بالمئة فقطعاً لما فعلنا". ويضيف:"لم يكن لدينا أي احتمال ولو واحد بالمئة ان عملية الاسر ستؤدي الى حرب بهذا الحجم". حول هذا"الاعتراف"اذن. اولا: هل هناك في دنيا الحروب"نصر"ليس مطلوباً تكراره؟ هل هناك"نصر"كانت بواكيره وخاتمته مفاجأة سلبية؟ هل انتصر"حزب الله"قبل او بعد إعلان امينه العام بأنه"لن يكررها"؟ كأنه يقول: انتصرتُ! انتصرتُ حقا، ولكنني لن اكرر هذا النصر، لا تذكّروني به... انا"نادم"على هذا"النصر"! ثانياً: اذا كان نصر الله لاحظ كل هذه الوحشية، الم يكن بوسعه ايقافها؟ عبر إيقاف الصواريخ على اسرائيل والتهديدات ضدها، والامتناع عن صنع"المفاجآت"والخطب النارية الواعدة والمتوعّدة؟ ام ان الحسابات الاستراتيجية لحرب العصابات، ولصمود رجالها، كانت لها الاولوية في الحساب؟ ثالثاً: اذا كان فعلا لن يكرر التجربة الا اذا كان العدو الطف من ذلك... وهذا الآن مستعبد كما هو بائن، فلماذا يعود ويقول في نفس المقابلة:"طالما الاحتلال موجود فنحن نملك حقا مشروعا في المقاومة وقتال المحتل الموجود على ارضنا"؟ وانه سوف يختار الزمان والمكان مرة اخرى... مقاومة؟ ام عدم تكرار التجربة؟ ام مفاجأة جديدة؟ رابعاً: اذا كان يعلم بأن اسرائيل واميركا كانتا ستتآمران وتعتديان على لبنان في الخريف المقبل كما يقول ايضا وبأن"الحزب"قام بعمليته تجاوز الخط الازرق وقتل 8 جنود اسرائيليين وخطف اثنين ، كنوع من الاستباق لهذين التآمر والعدوان، الا يعتقد بانه بذلك اعطى للمعتدين المزيد من الفرص لتنفيذ مؤامرتهم والمزيد من المبرر للتوحش وقتل الابرياء؟ أم كان يريد ان يثبت للعالم بأن اسرئيل متوحشة؟! فقط من اجل تكريس فكرة شرها المطلق... المنشطة الاعلى للتعبئة والتأييد؟ رابعاً: يطمئننا بأنه لن يكون هناك حرب. كنا نصدق التطمين، ولكن الآن، نطلب توضيحا دقيقا ومثبتاً: الى متى يبقى القتال متوقفاً؟ شهر؟ شهرين؟ سنة؟ سنتين؟ عقد؟ عقدين؟ خاصة وانه يتعامل مع سلاحه كما عامله فيما مضى، اثناء تحضيره لهذه المعركة. لن يكون هناك سلاح، يقول، ولا استعراضات مسلحة، سوف يختفي السلاح، كما كان مخفياً اصلا... فطلع علينا بترسانة! لسنا اعضاء في"حزب الله". ولا امينه العام كان مثار اعجابنا او تأييدنا يوماً. لكن حياتنا كلها، وطننا بأسره، انجر وراء"خطأ"في التقدير ارتكبه 15 رجلاً من"حزب الله"، كما يقول نصر الله:"ان قرار العملية لا أتخذه بمفردي فهناك قيادة سياسية وعسكرية خبيرة تتألف من 15 شخصا تقريباً". ولكن عفوا سيدي. اذا كنت مهموما الى هذا الحد ب"المشاركة في القرار"، كان حرياً بك ان تسأل كل مواطن مهما دنا في السلم القيمي والاجتماعي، وفي درجة خبرته، إن كان مستعدا لتكبّد كل هذا الدمار والموت... من أجل"خطأ"تقدير ارتكبته انت ورفاقك ال15؟ الحوار مع"حزب الله"يجب ان يبدأ الآن، وبصورة جدية، ومن منظور امن اللبنانيين وارواحهم وارزاقهم الغالية. والا فإعادة اعمار عرجاء، قصْ والصقْ، بين طوائف وضمنيات لا تنتهي. إعادة اعمار مثل ابراج من ورق، واتفاقات يوقعها متبرمون، متحينون لفرص اخرى، معبّأون ومشحونون ومنشقون... تغريهم زعامة أمم بأكملها. من حق الفينيق ان يتساءل قبل ان ينبعث من رماده. وإلا كان فينيقا احمق... ومن حق اللبنانيين ان يعرفوا الى اين تقودهم اسطورتهم الخطرة.