لم يكن الاسلام الموضوع المحوري للمحاضرة-الحدث التي ألقاها البابا بنديكت السادس عشر في جامعة راتسبون الالمانية. كانت أوروبا المبتعدة عن مسيحيتها هي القصد. سيرة الاسلام أتتْ في اقل من صفحة واحدة من اصل عشر صفحات"أي 10 في المئة من مجمل النص. ذكر البابا الاسلام في البداية كمن يرسم حدود الهوية الاوروبية، شغل البابا الشاغل على ما يبدو. وباقي الصفحات يستأهل التوقف عنده. اذ يشدد البابا فيها على اهمية علاقة العقل بالدين"ويعيد تلازمهما في المسيحية الى الإرث الهيليني اليوناني القديم، أساس اوروبا وجوهرها"بإضافة إرث روما طبعاً. ينذر البابا من مخاطر العصر الحديث، عصر تهميش الدين علمياً و"إقصاء الله من العقل"وتحول الدين الى مجرد"مشاعر ذاتية"لا تقيّدها قيمة ولا ايمان. العصر الحديث برأي البابا جرّد المسيحية من تراثها الهيليني. ولكي تعود الروح أو الهوية الى اوروبا، عليها إعادة إدماجهما، اي الهيلينية والمسيحية. نفهم من النص ومتْنه ان البابا قلِق على فقدان اوروبا لهويتها المسيحية. وهو يتصور ربما أن تنشيط هذه الهوية يمر عبر الاندماج الكلي مع الاصل الهيليني العقلي. تلك هي عالمية قيمها برأيه، وتلك هي حدودها الصافية الآتية من"الجذور". قبل ان يصيغ البابا مقولته، قبل ان يرسم الحدود الدينية-الثقافية للأوروبا التي يريدها، كان عليه ان يعين"الآخر". فكان هذا الآخر هو الاسلام. وما اسهل اصطياده... كانت الصفحة الوحيدة، بل الاقل منها، في بداية المحاضرة، التي اتى فيها على ما صرنا نعرفه جميعاً: امبراطور بيزنطي، في ظل حصار القسطنطينية بين الاعوام 1394 و1402، يقول بأن الاسلام دين سيف لا دين عقل. هذا ما يستشهد به البابا، مقتنعا بقوة حجته. وفي نفس الصفحة قول لإبن حزم الاندلسي حول إستحالة تناول الاسلام بالعقل. وقبلهما إشارة مواربة وخاطئة الى الآية الكريمة"لا اكراه في الدين"بأنها نزلت ايام كان الرسول مضطهدا في مكة"فيما هي آية مدينية، نزلت بعدما دعّم الرسول الكريم سلطته. يخطىء إذاً في ردّها الى فترة الاضطهاد الاولى، ربما عن سابق تصور، ربما بهدف الغمز من قناة الصورة المتدَاولة عن الاسلام في الغرب، من قناة تركيا المسلمة المتأهبة للإنضمام الى اوروبا"هذا لو كانت نيّته سيئة. أما لو كانت طيبة، فهذا يدل على تسرّعه او على ضعف معرفته بالاسلام. اما عن قول الامبرطور البيزنطي، وهو مرجع من الدرجة الثالثة او الرابعة، فلا شيء يبدو طبيعيا اكثر من اعتقاده بان المسلمين اصحاب سيف. فقد ظلوا، هم والروس، يهدّدون امبرطوريته حتى سقطت بعد قوله هذا بنصف قرن بيد الاتراك. والمرحلة التاريخية التي ينتسب اليها الامبرطور كانت مرحلة بداية افول العرب المسلمين. نصف قرن آخر، وكان الاسبان يسترجعون الاندلس منهم. حجة البابا ضعيفة جدا. لم يعتنِ بها. اراد فقط في لجاجته تثبيت الحدود بين العقل واللاعقل، بين الانا والآخر"تمهيداً لصياغة هويته المبتغاة. أغفل البابا العناصر التاريخية. اغفل حروبا خاضتها الكنسية بالسيف والتكفير ومحاكم التفتيش والمحارق... اغفل كل ذلك لكي ينتصر على الحداثة غير المحافظة، ويصادرها بإسم هوية اوروبية قيد التشكّل. اما اضعف ما ورد في هذه المحاضرة، فتجاهله الهوية الاصلية لدعامَتي اوروبا التي يريد: اي الهيلينية والمسيحية، التي يصورها البابا كأنها اوروبية خالصة. والحال ان الاولى لم تأتِ الى المسيحية مباشرة، بل عبر وسيط عربي-اسلامي"ترجمها الى اوروبا، فترك بصماته عليها، كما تركت بصماتها عليه. والثانية، اي المسيحية، أتت من خارج اوروبا، من الشرق. كان يمكن ان تمر المحاضرة مرور الكرام. لكن العصر ليس كذلك. العصر تحوم حوله حرب عنيفة، بين اديان وحضارات وهويات، لا بل مذاهب. اساسها بين"الاسلام"و"المسيحية-اليهودية"، اما تفرعاتها فلا تنتهي. البابا علم بأزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول الكريم محمد. بالتأكيد علم بها. ربما وهو يفكر بمحاضرته، كان صداها، وصدى اخواتها، حاضراً. ربما ذهب عقله نحو ملاحظة أن ردة الفعل الاسلامية هذه اكدت غياب العقل عند المسلمين، وحضور العنف في طقوسهم، وتعبيرهم، وتفاعلهم. وهو مثله مثل الامبرطور البيزنطي الذي يرجع اليه، يضع السور الحصين بين الانا والآخر. الامبرطور تعرض للغزوات والحصار، والغرب يتعرض اليوم للارهاب. فبفضل"غزوة"11 ايلول/سبتمبر، وما تلاها، نظر البابا الى اوروبا ورسم حدودها بكينونة هذا التهديد المباشر الذي تتعرض له الآن. اما ان يخلط بين اسلام واسلاميين، فهذه سقطة اخرى، رائجة، يقع فيها المسلمون كما المسيحيون على حد سواء. وليس هو الوحيد مسؤولاً عنها. هل ما يبرر هذه السقطة من دون ان يعفيها من سؤ النية؟ نعم. بالتأكيد. ردة الفعل الاسلامية على هذه الصفحة اليتيمة من محاضرة البابا، كانت كل شيء الا العقل. الغضب شبه المقدس. الأبلسة. هستيريا التظاهرات. التهديدات بالقتل. القتل فعلا، والهجوم على كنائس. المطالبة بصلب البابا. الطلب بمقاضاته قانونيا. الصراخ بقطع العلاقات مع الفاتيكان ومع كل الحوارات الاسلامية-المسيحية"وب"المؤامرة الصليبية"و"المخطط الاميركي الصهيوني". طلب الاعتذار، ثم عدم الاكتفاء بمجرد اعتذار. وكأن الاعتذار يغير الرأي. مثل سريع: الشيخ ابوبكر حسن مالين، رجل دين مقرب من"حركة المحاكم الشرعية"الصومالية يقرر بعد المحاضرة:"كل من يسيء الى نبينا يجب ان يقتل بيد مسلم يكون الاقرب اليه"، ويدعو المسلمين في"العالم كله الى الانتقام". ركوب العلمانيين الموجة اكثر ما يثير السخرية. اليساريون والقوميون دخلوا الطاحونة ايضاً، وبلغة لا تختلف عن الاسلاميين إحدى الصحف"التقدمية"وصفت محاضرة البابا ب"الفتنة النازية"!. لكن، من يملك القرار بإذاعة هذه الصفحة؟ وتهييج المسلمين عليها؟ الزعماء؟ الاعلام؟ الجمهور؟ الاحزاب والجماعات الاسلامية؟ دول بعينها يهمها ابقاء شعلة حروب الاديان متّقدة؟ او ربما العصر نفسه، وطبيعة الحرب التي تقيم فيه"على اساس ان التاريخ بالحروب. هذا ما يحتاج الى وقفة بحثية متأنية، وتفكير عميق. ومهما تكن المسؤوليات، فان لهذا الغضب الهستيري ارتدادات وهوامش، لن يسلم منها احد. ردة الفعل الاسلامية سوف تزيد من نسبة الاعتقاد الغربي الخاطىء بان الاسلام دين لا عقل. يعتذر البابا او لا يعتذر، فان المزيد من الاصرار على الاعتذار سوف يرسي سلوكا جديدا في الثقافة الدولية: الخبث الثقافي الديبلوماسي، وعدم الافصاح عما في البال ومن ثم ريبة وشكوك... ووجوه اخرى من حرب الحضارات والديانات. الجموع الغاضبة لم تقرأ الصفحة اللعينة. ومن قرأها، لم يتابعها حتى نهايتها. ومزقها صارخاً"وجدتها! وجدتها!". شعلة النار وُجدت. وُجدت اسباب وجيهة للشر. ثم جولة جديدة من الحرب... واللهاث خلفها مثل مجانين الاعراس. هكذا يتواصل دوَران الحلقة المفرعة حول نفسها. مدمراً، جهنمياً، يصعب إيقافه، دون الظهور بمظهر المنسلخ عن هويته، او الجالد نفسه. وهذا مع ان شيئا من التهدئة، شيئا من الهدنة في هذه الحرب، لا يتطلب اكثر من النظر الى انفسنا. كم نحن ايضاً نسيء الى المسيحية والى غيرها من الديانات، وذلك في كل سلالم ثقافتنا، ومهما تنوعت مذاهبنا. فبالأمس القريب، كنا مشغولين بين سنة وشيعة، والآن مسيحيين ومسلمين... وغداً، والله وحده يعلم اي درك آخر نبلغه، أي"آخر"نزجّه في غمار عداواتنا.