منذ سلفه الأشهر"دالاس"، لم يحظ مسلسل أميركي بالنجاح الذي حظي به مسلسل"الأصدقاء"، والذي يشارك فيه ست من خيرة ممثلات وممثلي الجيل الشاب في صناعة التلفزة الأميركية. البرنامج يعرض في أكثر محطات التلفزة في العالم منذ العام 1994، ويحقق إقبالاً متزايداً عابراً للأذواق والثقافات، كما تعرضه راهناً محطات عربية عدة بينها"إم بي سي 4". لكن هذه الشعبية الواسعة لا تعود بالدرجة الأولى الى استثمار الشهرة التي جعلت من مسلسل"دالاس"دجاجة تبيض ذهباً، ودفعت منتجيه الأميركيين الى اعتماد مزيد من الإسفاف بقصد المزيد من الربح. ذلك لأن"الأصدقاء"سلسلة درامية متصلة ومنفصلة في آن معاً، تتسلل الى التفاصيل اليومية لمجموعة من الأصدقاء الشباب،وترتكز على المفارقة الدرامية، الكوميدية منها والتراجيدية، التي يعيشونها في حياتهم الخاصة والخاصة جداً للتذكير، والتي لم يعتد عليها المشاهد العربي بالذات. وعلى رغم الكثير من المشكلات والأخطاء والانزلاق الى التوافه أكثر مما ينبغي أحياناً، ظل نجاح السلسلة يتصاعد، ربما بسبب اعتماد صانعيه على توفير عناصر فنية ونفسية وثقافية كثيرة، لعل أهمها: اقتناص اللحظة الإنسانية الأكثر تأثيراً في نفس المشاهد، وتحويلها الى مشهد من دقائق قصيرة، عماده الجملة المختصرة والتلميح البليغ والأداء التمثيلي المميز والبسيط. إثارة موضوعات لا تستفز الرقيب مباشرة، على رغم أنها لا تكاد تضع محظوراً على أي فكرة، وذلك لأن أكثر الأفكار استفزازاً تتحول على لسان الشخصيات الى مقالب ساخرة ومفارقات مضحكة، لكنها لا تخلو من العمق والغاية الجادة. وعلى رغم أن عدداً من محطات التلفزة العربية يقوم حتى الآن بحذف مشاهد القبلة من الأفلام، إلا أنها تسمح في"الأصدقاء"بما هو أكثر جرأة، لأنه ببساطة مغلّف بالطرفة والضحكة. هذا التمرير البارع لا يهادن الرقيب في الحقيقة، بقدر ما يراهن على مخيلة المشاهد، في أوساط الشباب بخاصة، من خلال تحويل المشهد بأسره الى مجاز مفتوح قابل للتأويل في كل ما يخص الصورة الذكية والعبارة اللماحة والفكاهة التلقائية، وبهذا يجري تحويل المشاهد من متفرج خارج التلفزيون، الى لاعب حقيقي يتفرج على اللعبة ويشارك فيها أيضاً. ومن الطبيعي أن نجاح هذه السلسلة الدرامية يحيلنا الى تعثر مسلسلات عربية من الطراز المنفصل المتصل ذاته، حيث يضطر مخرج متمكن وقدير الى تصوير مشهد لحبيبين يلتقيان بعد سنوات طويلة من الغياب، ولكنهما يقفان قبالة بعضهما البعض من دون أن يتجاسرا على العناق! أو، في مراعاة محظور رقابي آخر، تكرار الحالة ذاتها ولكن مع أمّ غير مسموح لها بمعانقة ابنها العائد من هجرة طويلة! مثل هذه المشاهد المشحونة تنقلب الى مباراة مريرة في التحايل على اللقطة والالتفاف على الحوار، على رغم أن الموقف بالغ الوضوح عاطفياً وشديد البساطة إنسانياً، بحيث ينتهي الأمر غالباً الى تقديم مشهد بارد لا صلة له بالواقع. وما يخسره المشاهد لا يقتصر على التلقائية والعفوية وحس الحياة الطبيعية فقط، لأن صدقية العمل الفني هي التي تكون على المحك في الدرجة الأولى.