يعود إرث "المصالحة" بجذوره بعيداً الى التاريخ العربي - الإسلامي، فهو حافل بالمفاهيم والتقاليد والطقوس الخاصة بالصفح، التي تُدعى "الصلح" أو "المصالحة"، وتعتبر كنماذج لحل النزاعات داخل الجماعة العربية - الإسلامية. واليوم تبدو المجتمعات العربية في حاجة الى استعادة هذا التراث ممزوجاً بالخبرات المتراكمة للمجتمعات، خصوصاً تلك التي مرت بفترات من النزاع الأهلي او انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أخلّت بثقة المواطن في النظام السياسي والقضائي لبلده إخلالاً كاملاً، فتعزز شعوره بأن الدولة ذاتها متورطة في ما يعيش فيه. وفي السنوات الأخيرة تطور مفهوم"العدالة الانتقالية"ليشير الى حقل من النشاط أو التحقيق يركز على المجتمعات التي تمتلك إرثاً كبيراً من انتهاكات حقوق الإنسان، أو أشكال اخرى من الانتهاكات تشمل الجرائم ضد الإنسانية، أو الحرب الأهلية، وذلك من اجل بناء مجتمع اكثر ديموقراطية لمستقبل آمن. وتطور هذا المفهوم من خلال مصطلحات تدخل ضمنه مثل إعادة البناء الاجتماعي، المصالحة الوطنية، تأسيس لجان الحقيقة، التعويض للضحايا، وإصلاح مؤسسات الدولة العامة التي غالباً ما ترتبط بها الشبهات اثناء النزاعات الأهلية الداخلية المسلحة مثل الشرطة وقوى الأمن والجيش. حصل ذلك في اكثر من 23 دولة في انحاء متفرقة من العالم مثل تشيلي 1990 وغواتيمالا 1994 وجنوب افريقيا 1994 وبولندا 1997 وسيراليون 1999 وتيمور الشرقية 2001 والمغرب 2004. ومع حدوث التحول السياسي بعد فترة من العنف أو القمع في مجتمع من المجتمعات. يجد المجتمع نفسه في كثير من الأحيان أمام تركة صعبة من انتهاكات حقوق الإنسان، ولذلك تسعى الدولة الى التعامل مع جرائم الماضي رغبة منها في تعزيز العدالة والسلام والمصالحة، ولذلك يفكر المسؤولون الحكوميون ونشطاء المنظمات غير الحكومية في انتهاج مختلف السبل القضائية وغير القضائية للتصدي لجرائم حقوق الإنسان، وتستخدم في ذلك مناهج عدة من اجل تحقيق إحساس بالعدالة اكثر شمولاً وأبعد أثراً. مثل إقامة الدعاوى القضائية على مرتكبي الانتهاكات من الأفراد، كما حدث في كوسوفو. أو إرساء مبادرات لتقصي الحقائق لمعالجة انتهاكات الماضي، كما حصل في سيراليون. أو تقديم التعويضات لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، كما حدث في الولاياتالمتحدة، أو التمهيد لعمليات المصالحة في المجتمعات المنقسمة على نفسها، كما حدث في تيمور الشرقية. كيف لنا ان نستلهم هذا الإرث في تحسين واقع مجتمعاتنا، وفي الوقت نفسه المساعدة في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة على اسس وطنية تحقق المصالح الحقيقية لهذه المجتمعات؟ وإذ تمر سورية اليوم بمخاض عسير على مستوى انقسام توجهات فئاتها الاجتماعية، وتعاني في الوقت نفسه من تحد خطير ربما لم تمر به من قبل في سياستها الخارجية، فللمرة الأولى في تاريخها تصدر بحقها قرارات دولية 1559 وپ1595 وپ1636 وپ1640 وپ1680 وبعضٌ منها صدر وفق الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. قد نحاجج كثيراً في مدى شرعية هذه القرارات ومدى تمثيلها لما يُعرف"بالشرعية الدولية"، إلا ان ذلك لن يغيّر من حقيقة انها قد صدرت. ولأنها صدرت بحق سورية، وذلك يعني ما يعني، فإنها ستكون ملزمة ربما اليوم قبل غد بتنفيذها. كانت سورية باستمرار تدفع في اتجاه الشرعية الدولية، وإن شعرت نخبتها السياسية بأن هذه الشرعية لم تنصفها تماماً، لكنها كانت تدرك ان انعدام موازين القوى في المجتمع الدولي، جعل هذه الشرعية ذاتها معياراً لتأويل ولكيل بمكيالين. وبقدر ما كانت سورية تستفيد من صدور قرارات دولية لمصلحتها في مواجهة إسرائيل بقدر ما كانت تستفيد منها في معركتها ضدها، سياسياً وإعلامياً وكانت تحاجج باستمرار وفق هذه الشرعية الدولية. اليوم، اصبح وضع سورية في غاية الحرج في ما يتعلق بموقعها في هذه الشرعية، وما يزيد إيلاماً أن معظم هذه القرارات الدولية الصادرة بحقها إنما هي ثمن لتصرفها أثناء وجود قواتها في لبنان. فإرث طويل وعريق من العلاقات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية انتهى بهذين البلدين الجارين الى الخصام في مجلس الأمن والاحتكام إليه. كان لبنان، وخلال اكثر من عقد كامل من الصراع ثم المفاوضات مع إسرائيل وخلال الحروب العربية - الإسرائيلية المتكررة وآخرها عدوان تموز يوليو الأخير حليفاً أكثر من استراتيجي في الدفاع عن موقف سورية وأحقيته في استعادة الجولان السوري المحتل. ومن غير شك تتحمل السياسة الخارجية السورية اليوم مسؤولية تاريخية عن أسباب تدهور علاقاتها السياسية مع لبنان ليصل الأمر الى ما هي عليه اليوم، والسوريون يحصدون ثمار سياسات أثقلت كاهلهم، وابتعدت عن قراءة المعنى الحقيقي للسياسة بصفتها التعبير الأرقى عن مصالح الناس ورغباتهم. وبالتوازي مع ذلك يبدو المجتمع السوري مغيباً عن المشاركة في صنع القرار، على رغم انه هو من يتحمل نتائج هذه القرارات وأوزارها، وعاجزاً عن تجاوز خوفه المزمن من"سنوات الخوف"في عقد الثمانينات يطلق المغاربة اسم"سنوات الرصاص"على تلك السنين التي شهدت تعديات جسيمة على حقوق الإنسان، خصوصاً في ما يتعلق بمعارضي حكم الملك الراحل الحسن الثاني، والتي ترافقت مع حوادث الاختفاء القسري للكثير من معارضيه، واستطاع المغرب تجاوز تلك السنوات بما يسمى"هيئة الإنصاف والمصالحة"، والتي ارتبطت ذاكرة السوريين فيها بعدد من انتهاكات حقوق الإنسان، وترافقت مع سوء استخدام وتجيير للنظام القضائي في شكل أفقده ثقته وهيبته لدى المواطنين، كما ترافقت مع اتساع حوادث الاختفاء القسري لدى الكثير من أسر المعارضين. كيف لسورية، اليوم، ان تتجاوز تاريخها القريب الذي لا يُنسى، فالماضي كما يقول الكاتب الأميركي ويليام فوكنر"ليس ماضياً أبداً، انه يعيش بيننا"، وحاضر معنا وبين ظهرانينا، من دون ان يزيد ذلك من حجم نزاعاتها او الانشقاقات داخل مجتمعها؟ ان ذلك يتطلب قراراً شجاعاً من نوع تلك القرارات المصيرية والتاريخية في اعتماد نهج"المصالحة الوطنية"كمرحلة لا خيار لسورية سوى الدخول فيها من اجل اعادة تأسيس للشرعية بمعنى جديد وبدور مختلف للدولة ومؤسساتها، فالمصالحة وحدها هي القادرة على استعادة الثقة للمجتمع بنفسه ودوره في الإسهام في عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتعبير"المصالحة الوطنية"يعود الى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول، واستخدمه في ما بعد على التوالي كل من جورج بومبيدو وفرنسوا ميتران، عندما رسخ عندهما الاعتقاد بضرورة تحمل مسؤولية محو الديون وجرائم الماضي التي وقعت تحت الاحتلال أو إبان حرب الجزائر. فديغول عندما عاد للمرة الاولى الى فيشي وألقى فيها كلمة شهيرة حول وحدة فرنسا وفرادتها، شكّل مفهوم المصالحة الوطنية لحمة ذلك الخطاب الديغولي، وهو الأمر ذاته الذي فعله بومبيدو الذي تحدث في ندوة شهيرة له عن المصالحة الوطنية وعن الانقسام الذي تم التغلب عليه، نتيجة عفوه عن توفيي Touvier. ثم استخدم مانديلا هذا المفهوم في جنوب افريقيا عندما كان لا يزال قابعاً في السجن، اذ رأى ان من واجبه ان يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام، الذي سيتبع أولاً عودة منفيي المؤتمر الوطني الإفريقي ANC ويطمح الى مصالحة وطنية، من دونها سيكون البلد عرضة لمزيد من الاحتراق وإراقة دماء دافعها الانتقام بكل تأكيد. إن المصالحة هي شكل من أشكال العدالة الانتقالية التي تكون ضرورية لإعادة تأسيس الأمة على أسس شرعية قانونية وتعددية وديموقراطية. وفي الوقت نفسه يبدو لبنان خارجاً من أثقال حرب أهلية ووجود عسكري سوري طويل الأمد ثم حرب إسرائيلية أرادت تدمير بنيته التحتية وقبل ذلك عزيمته السياسية والوطنية، وما تزال ظلال ذلك تتداعى عليه، من دون أن يستطيع الخروج من"الحرب الطائفية"والأخطر منها"الابتزاز"بها الى مرحلة بناء مؤسسات الدولة على أسس شرعية ديموقراطية حديثة تليق بإرث لبنان وتاريخه ودوره الإنساني، فنخبته السياسية التي أثرت من حربه الأهلية هي التي تقوده اليوم من دون أن تمتلك رؤية للبنان المستقبل. فمعظم اللبنانيين لم يكن مشاركاً في العنف خلال فترة الحرب الأهلية، وكانوا ضحايا الميليشيات وأمراء الحرب. ولذلك فإن الحرب الأهلية لم تنفذ الى جذور الوعي الشعبي، أو المجتمع المدني الذي كان هذا المجتمع ضعيفاً للغاية بيد أنه بقي على قيد الحياة. والدليل يكمن في عدد النشطاء في المنظمات غير الحكومية الذين أخذوا على عاتقهم تخفيف معاناة الناس خلال فترة الصراع. والى الآن لم يتفق اللبنانيون حول هويتهم الوطنية وما زالوا يدخلون في"حروب كلامية"حول هذه الهوية، وأحياناً اكتست هذه الحروب طابعاً طائفياً وهذا هو التحد الرئيسي بالنسبة الى لبنان واللبنانيين. وتبدو المصالحة الوطنية وحدها الكفيلة بإخراج لبنان من ارث الماضي الذي يحكم مستقبله الى دوره الإنساني والتاريخي. ذلك أنه في المجتمع المتعدد الاثنيات كلبنان، تأتي المصالحة كتعويض عن بناء دولة قوية بمؤسساتها الوطنية، وكتعويض أيضاً لغياب تحليل دقيق وموضوعي لما حدث في الماضي. ولا بد لتحقيق ذلك من حملة وطنية بغية تقوية الرأي العام من أجل بناء مؤسسات تمثل المصالح العامة للجميع، خصوصاً العدالة والتي تعد في صلب عملية بناء المصالحة الوطنية. والجهود الفردية للمصالحة يجب أن تبدأ بمعرفة الحقيقة بين الأفراد والجماعات التي خاضت الحروب، فكل جماعة يجب ان تعترف بأخطائها وجرائمها في الماضي وتقدم اعتذاراً رسمياً عن ذلك. وما هو مفقود في لبنان اليوم بيئة آمنة وطبيعية كي تفعل الجماعات المختلفة ذلك. إن حلقات الحوار الوطني المعقودة اليوم في لبنان يجب أن تتضمن ذلك، فالمشاركون يجب أن يعبروا بصراحة عن رغبتهم في بناء المصالحة الوطنية عبر تقديم كل طرف اعتذاراً رسمياً عن أخطائه في الماضي. وسورية ولبنان يبدوان اليوم محتاجين الى نمط مشترك من المصالحة الوطنية بينهما، وقبل كل ذلك داخلهما، إنهما في حاجة الى تأسيس جديد لنمط الشرعية قائم على نمط الشرعية الدستورية المؤسساتية، وتجاوز إرث الماضي الثقيل عبر مجموعة من الإجراءات التي تؤسس للدخول في"المصالحة الوطنية"، يبدو البلدان اليوم في حاجة لها أكثر من أي يوم مضى. * كاتب لبناني، مدير قسم الشرق الأوسط في مركز طليطلة الدولي للسلام - اسبانيا. * كاتب سوري، مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان - سورية.