- 1 - بخلاف أي توقع تفاجئك الكاتبة والشاعرة والروائية السعودية زينب حفني وهي تقدم نفسها من خلال أعمالها الإبداعية - واحدة من أصوات الزمن الجديد في الجزيرة العربية أسلوباً وموقفاً وطرحاً للقضايا الساخنة عبر الشعر والنثر. كنت تابعتها كاتبة صحافية وإذا بي أفاجأ بإنتاجها الغزير في مجال القصة القصيرة والرواية بخاصة فقد أصدرت ثلاث مجموعات قصصية هي"قيدك أم حريتي"وپ"نساء عند خط الاستواء"وپ"هناك أشياء لا تغيب"كما أصدرت حتى الآن ثلاث روايات هي"الرقص على الدفوف"وپ"ملامح"و"لم أعد أبكي". والروايتان الأخيرتان من منشورات دار الساقي. لها أعمال أخرى من بينها مجموعتها الشعرية"إيقاعات أنثوية"الصادرة عن دار مختارات، بيروت عام 2005. لن أتوقف - الآن على الأقل - عند الكتابات النثرية السردية للكاتبة الشاعرة زينب حفني ولديّ منها روايتان هما"ملامح"وپ"لم أعد أبكي"لأن نداء المجموعة الشعرية يشدني ربما للعلاقة المتينة التي تربطني بالشعر، أو لأن النص الشعري بما يمتلكه من ذاتية وصفاء أقدر على التعريف بالمبدع وتقديمه الى القارئ من سائر الأشكال الإبداعية الأخرى. ويبدو لي أنه إذا كان هناك نوع أدبي يكشف عن مأزق النفس البشرية وجذور فرحها وتعاستها فإنما هو الشعر لا سيما في عالم يكتنفه الخوف وتضيق معه دوائر البوح والإفضاء. منذ النص الأول في المجموعة وعنوانه على مقاعد الدراسة تشعر أن هذه الإيقاعات الأنثوية لا تهتم بالرحيل فنياً نحو أفق شعري جديد بقدر ما تهتم مضموناً بأن تجهر بسؤال اللحظة المتحجر فوق الشفاه عن سر التخلف العربي وغياب التفسير الصحيح لظاهرة الوقوف على أطلال الخسائر المتعاقبة وإصابة كل المحاولات الجادة للخروج من هذا المأزق الإنساني بالفشل وهي تجتهد في أن تجد لموقفها هذا معاني وصوراً تفسر أو تؤكد ذلك الموقف: "في حصص التاريخ / قرأنا عن البطولات العنترية / ودرسنا الكثير عن الحضارة الأندلسية / وقصص عديدة عن الوحدة العربية / لكنها في الحقيقة / ظلت حبراً على ورق / وفي حصص الجغرافيا / علمونا كيف كنا / أرضاً واسعة / خصبة التربة / وكيف حولنا الاستعمار / الى قرى متناثرة / وقطع متناثرة / أحاطها بأسلاك وهمية شائكة". ص 5 وفي مقاعد الدراسة ذاتها حيث تلقت الشاعرة حصص الأدب والتاريخ والجغرافيا واصطدمت بالفراغ الواسع بين ما كان وما هو كائن بين أحلام الماضي والحيثيات المأسوية للحاضر، في هذه المقاعد ذاتها نشأ السؤال وثم اتسع وتعمق: "سألت يوماً معلمتي / عن معنى كلمة حرية / أمرتني أن أحسن فن الكلام / وأن لا أتخطى حدود الأدب / سألتها بشغف... / ماذا عن"ولادة"بنت المستكفي / قالت... كانت امرأة عاهرة / تتباهى في أشعارها / بأعداد عشاقها". ص 6 في زمن تتداخل فيه الأصوات وتتشابه، ولا يستطيع القارئ المتابع أن يميز فيها انفرادها واستقلاليتها، يكون من الندرة العثور على صوت يبرهن على تميزه بمعنى حقيقي يعلي من شأن الكلمة وقيمتها في الحياة. وفي أجواء هذا السرد الشعري الذي يجمع بين جسارة المعنى وشعرية الموقف تنداح الصور وتتلاحق المكابدات والتذكارات الشجية، منطقية مباشرة حيناً وغامضة متعددة الأطياف حيناً آخر لكنها في كل الحالات تنجح في تكثيف الحديث عن آلامها وكبريائها: "أكوّر نفسي في وقعة تأملاتي / لعين الفتيان / أبصق رذاذ أحزاني / على أرضية عمري المتعرجة / بركان اليأس يغلي في أحشائي / زبد الحرمان / يود الاستكانة على شاطئ الارتواء". ص 26 - 2 - في مدخل الفصل الأول من روايتها الجديدة"ملامح"الصادرة عن دار الساقي 2006 تستعير الكاتبة زينب حفني العبارة الآتية من"اعترافات جان جاك روسو":"حين يدق ناقوس الساعة، سأقف أمام خالقي المعظّم وهذا الكتاب في يدي قائلاً بشجاعة: هذا ما فكرت به وفعلته ولم أنس ذكر الطالح من أفعالي، ولم أضف من الخبر ما لم يكن موجوداً بالفعل. عرضت نفسي كما كنت: حقيراً أستحق الاحتقار أو عظيماً سامياً في فكري". تمنيت لو انتقلت هذه الاستعارة بالحرف الى مدخل هذه المجموعة الشعرية، لكان لتوظيفها الرمزي قيمة مضاعفة فهي تضيء أبعاد الحضور الواقعي شعرياً للمسكوت عنه والمهمش في حياة المرأة العربية المبدعة والملاحقة، بفتاوى من لا يعلمون شيئاً عن عملية الإبداع، وعن كون المبدعين في كل واد يهيمون لالتقاط المتخيل والقصصي من الصور، لا لتجسيد حقيقة وإنما لإثبات شهوة البراءة واستضافة المستحيل من المعاني واسترجاع ما اختزنته الذاكرة من شطحات وادي الحلم وهو ما نجحت نصوص المجموعة في إثارته وكشف تجلياته على رغم ان شرطة الشعر التي لا تعرف شيئاً عن قديم الشعر وحديثه موجودة في كل الأقطار العربية والإسلامية من دون استثناء، وهي لا تعرف شيئاً عن حقيقة المجاز ومعنى الانزياح اللغوي والرمز والاستعارة، وتجهل كل مكونات الشعر كما تجهل حرية التعبير ولا تدري أن حرية الشعر سابقة على كل الحريات وخطاب القصيدة قائم في الأساس على هذه الحرية وإذا ما انتزعت منه صار الشعر شيئاً آخر: "أيها الشاعر الكبير / من قال إنني... / أطمع في قصيدة عصماء / في مرثية ترسمها بأصابع يديك / ألج بها بوابة الخلود / سئمت سيدي / أطباق الرياء / أمعائي تمزقت / من سموم الرياء / أنا امرأة قنوعة / أمانيها محصورة / أن تكون كاتبة عفوية / تقتلع بمخالب قلمها / المدفونة في رمالنا العربية". ص 34 كأن الشعر بالنسبة الى الشاعرة زينب حفني تجربة حياة أولاً ثم تجربة فنية ثانياً. ومن هنا تغلب السرد المكتوب بلغة نثرية على التعبير الصوري ولولا حالات التوتر الحادة وغزارة الانفعال المنثال بين السطور واستخدام المتضادات القائمة على فكرة المفاجأة لاستحوذ النثر على هذه النصوص وجعل منها قصصاً قصيرة. وقد نختلف مع نقاد كثيرين يرون الشعر خارج الواقع وخارج حياة المبدع بل وخارج المكان والزمان لكننا سنظل نقول إن الشعر إذا فقد التجربة افتقد معها بوصلته المؤدية به نحو القارئ: "أظل امرأة شرقية / ألقي خمار حياتي على وجهي / إذا نطقت حروف اسمك / وأغض طرفي / كلّما غصت بنظراتك / في تربة أنوثتي / أظل امرأة شرقية / أدفئ رأسي بين راحتي / كلّما داعبت أشواقُك / مكامن براكين / طاوية لوعتي / بين طيات ثوبي / وفي خبايا عقلي". ص 49 إن في إيقاعات زينب حفني حزناً كبيراً يتماهى في غضب أكبر. وكلاهما، الحزن والغضب، تعبير عن حالات إحباط لا تكاد تخرج عن تلك التي تهيمن على واقع الإبداع العربي وفي الآونة الأخيرة على وجه الخصوص تجسيداً لحالات الانحسار والخسائر والآلام التي يعانيها الجسد العربي الجريح.