لبنان على صغر مساحته فهو الأعظم بشعبه وحضارته وروحه. إنه يقف اليوم شامخًا صامدًا يدافع باستماتة عن وجوده وقيمه، وهو يواجه آلة تدمير عاتية تستهدف مقوماته وشعبه. فهل كان ضحايا مجزرة قانا مقاتلين في حزب الله؟! أم كانوا مجرد نساء وأطفال بعضهم من المعاقين؟ أم أنه عدوان وحشي يخلو من الحس الإنساني بكل معانيه؟ هل يكمن الحل لهذه الأزمة في تسوية واسعة عاجلة في منطقة الشرق الأوسط؟ طالما أن إسرائيل تنوي الحفاظ على احتلالها للأراضي الفلسطينية فإن مثل هذه التسوية تبدو مستحيلة. فمنذ عام 1974 استعملت الولاياتالمتحدة حق النقض الفيتو في مجلس الأمن 40 مرة من أجل منع تمرير قرارات إما تدافع عن حقوق الفلسطينيين أو تندد بممارسات الحكومة الإسرائيلية. وكان آخرها يوم 13 تموز يوليو 2006 حيث تم إيقاف صدور قرار يندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، وإطلاق صواريخ وخطف جندي إسرائيلي من قبل مجموعات المقاومة الفلسطينية. أقول: لا يمكن للقوة وحدها أن تحسم الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط. إن تباطؤ المجتمع الدولي في الاستجابة لما يجري على الساحة اللبنانية وعدم قيامه بالتحرك الفوري لإيقاف العدوان أدى إلى تدهور الأوضاع ووقوع المجازر الوحشية. وتقع مسؤولية أخذ الإجراءات الفعالة والكفيلة بإنهاء العدوان على عاتق المجتمع الدولي الذي يجب ألا يقف فقط عند الشجب والتنديد بهذه الأعمال الإجرامية والخروقات للقانون الإنساني الدولي. لذلك فإنني أدعو إلى عقد مؤتمر دولي عاجل يناقش هذه القضايا من منظور فوق قطري إقليمي متكافل، يتم فيه التصدي لمسائل مثل الأمن الصلب العسكري والأمن الناعم الإنساني بمشاركة كل الأطراف المعنية على المستويين الدولي والإقليمي. يقول السيد روبرت مالي، مدير المجموعة الدولية للأزمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا:"إن الانتظار والأمل في أن يحقق العمل العسكري أهدافه المزعومة سيكون لهما عواقب وخيمة على الصعيد الإنساني. سيصبح من الصعب متابعة العملية السياسية عند توقف العمل العسكري". إن الحل السياسي لهذه الأزمة لا بد أن يكون من خلال تبني ميثاق استقرار إقليمي يتألف من اتفاقيات سياسية يتم بموجبها التصدي للمشكلات التي تواجه المنطقة: الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الحروب في العراق وأفغانستان، والوضع الحالي في لبنان. وتتضمن هذه الاتفاقيات الآتي: التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار بما يسمح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المدنيين، تبادل الأسرى، الانسحاب من مزارع شبعا المحتلة، التحقيق الذي تشارك فيه أطراف متعددة في الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين والاعتداءات التي تمت على مراكز المراقبين التابعة للأمم المتحدة، تفعيل حوار لبناني داخلي، مشاركة الأطراف الإقليمية كافة في عملية الحوار، وإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط. لنأخذ بعين الاعتبار خطرًا آخر يحدق بمستقبل منطقتنا ألا وهو زرع الحقد والمرارة في نفوس سكان المنطقة من عرب ومسلمين ومسيحيين ويهود. إن أجيالاً جديدة من الأطفال تنشأ وتكبر وهي تحمل مشاعر الكره للآخر والإنكار لإنسانيته. وقد شاهدنا على شاشات التلفاز صورًا لرسائل الكره التي خطت بأقلام الأطفال على القذائف. لذلك فإنني أؤكد أهمية تفعيل الحوار بين مختلف الأطراف، ونبذ العنف والطائفية، والتركيز على كل ما من شأنه توطيد أركان الاستقرار في المنطقة، وذلك من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية، والعمل على توفير سبل العيش الكريم للمواطنين، والعمل على تطبيق سياسة الاحتواء لا الإقصاء والتهميش. عندئذ يمكن الحديث عن بناء مجتمعات ديموقراطية مستقرة. يجب ألا ننسى أن الديموقراطية ليست مفهومًا مستوردًا من الخارج بل هي نابعة من تراثنا الحضاري ومتجذرة فيه. فعندما درس الفيلسوف أرسطو دساتير العالم القديم في عصره، كتب في مؤلفه"السياسة"قائلاً:"أما قرطاجنة فلم يقع فيها انقلاب قط لأنها ديموقراطية". إن لبنان أول ديموقراطية في العالم، وهو من علّم العالم الأبجدية والحضارة، واليونان، التي بنى عليها الغرب حضارته، مدينة بجلّ ما لديها للفينيقيين. أذكر من أبطالهم هنيبعل، حنّون، هانئ بن تيّم وفرفوريوس الصوري الذي ألّف كتاب إيساغوجي: المدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي. كما كان له الفضل في جمع كتابات ومحاضرات أفلوطين في مؤلف عرف بالتاسوعات. يا شعب لبنان الأبيّ، نحيي فيك الصمود والأمل وإرادة الحياة. فقد وقفت في وجه أقسى العتاة في الماضي، وبإمكانك الآن تجاوز هذه المحنة بالمقاومة الباسلة والتلاحم والالتفاف حول قيادتك، وتمسكك المستمر بالقيم التي أبدعتها طيلة تاريخك الحضاري. * رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه، سفير الإيسيسكو للحوار بين الثقافات والحضارات، منسق منظمة المؤتمر العالمي للأديان من أجل السلام.