"المنظور" في الرسم التشكيلي والهندسي هو تقنية لتمثيل الأبعاد والمسافات، بتناسبها الأقرب إلى الواقع، مجسّمةً على مساحة مسطّحة. فيُبقي القريب قريباً والبعيد بعيداً، بكل نقاء ووضوح. الرسام الشهير فنسنت فان غوغ طوّر تقنية منظور خاصة به، عندما اعتمد على حجم الريشة أو الفرشاة. فكان يسجّل انطباع القُرب بالريَش الكبيرة وانطباع البُعد بالريَش الصغيرة. وتنشأ الأشكال، على القماشة البيضاء، من مجموع"ضربات"متقاربة. الخرائط الورق، في المقابل، مسطحة تمثّل نسباً للمسافات، لا ارتفاعات فيها ولا أعماق، وتالياً، لا منظور. لكن الخرائط"السود"التي كانت تتناقلها شاشات التلفزيون والكومبيوتر جاءت أكثر تفسيراً وديناميكية. أولاً، هي دليل على وفاء موقع"غوغل"بما وعدنا به، من خلال تقنية"غوغل آرث": أن نرى أنفسنا من فوق، في اللحظة نفسها التي ننظر فيها إلى الشاشة. إلاّ أننا نقع في تناقض شديد: عندما ننظر نحو عدسة القمر الاصطناعي الذي يصوّرنا، نعجز عن رؤية أنفسنا على الشاشة، في تلك اللحظة. وإذا تطلّعنا في الشاشة، لا تستطيع العدسة التقاط وجوهنا، في تلك اللحظة. إذاً، لا مفرّ من أن يرانا غيرُنا ونرى غيرَنا. فرأينا كيف تمعن الطائرات الحربية الاسرائيلية دقة في التدمير والقتل. وفي الخرائط المتحركة، ظهرت سيارات تتنقل في الليل، وأفراد يتسللون، ثم تلتمع في العتمة صواريخ، وتظهر، أحياناً، مبانٍ وجسور تلاحقها نقطة سوداء للتهديف الدقيق... ويعقب كل ذلك وهج كبير يعيد الظلام إلى اللوحة. وفي الصباح التالي، تأتي صورة التلفزيون لتوضح لنا ما الذي حصل: دمار متفاوت الشدة. لكأن الطائرات تستعين بمنظور فان غوغ في الرسم. فضربت بپ"الريَش"الكبيرة، على"كانفا الدمار"، المناطق"الخطرة"على إسرائيل، لإبرازها في المقدّمة، واستخدمت"ريَشها"الصغيرة للتذكير بسيطرتها الجوية البعيدة. وحتى الآن، لا نعرف، نحن المنسطحين على الكانفا، ما إذا كانت اللوحة انتهت. وإلى أن يحين ذلك، ثمة جسر صغير في عكار شمال لبنان، وكان آخر المعالم التي أصابها القصف قبل الهدوء، استُهدف بصاروخ من النوع الثقيل، على غير ما أصيبت به جسور تلك المنطقة التي تأتي في خلفية الوطن، عادة، أو خلفه. الأبنية من حول الجسر تهدّمت وتصدّعت، أسوة بأبنية الضاحية أو بيوت الجنوب. والجرحى وقعوا داخل مستشفى بعيد، لئلاّ يهرع أحد إليهم. الجسر تصدّع، لكنّ حجارته بقيت متماسكة، ربما خوفاً ممن يشكّل"الانطباع"الأول في اللوحة. أحسن الجسر في اتخاذ الحيطة والحذر، في انتظار التوقيع على اللوحة.