لم تعد النظرة التقليدية للحروب، كصراع بين قوتين عسكريتين، ذات قيمة في العصر الحديث. فالصراعات أصبحت ذات أبعاد متعددة، تأتي في نهايتها القوة العسكرية. يمكننا أن نقرر - مثلاً - أن القنبلة الذرية لم تحسم الصراع الأميركي - الياباني، لكنه حسم ثقافياً مع عالمة الانثروبولوجيا روث بنديكت، عندما ألّفت كتابها "زهرة الكريزانتيم والسيف" الذي تمكن الأميركيون من خلاله - للمرة الاولى - من التعرف على الشخصية اليابانية، الغامضة بالنسبة إليهم. من هنا، تأتي أهمية كتاب "العربي في الأدب الإسرائيلي" تأليف جيلا رامراز رايوخ، ترجمة: نادية سليمان حافظ وإيهاب صلاح فايق، نشر المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة 2001، إذ نتعرف من خلاله على صورتنا في ذهن الآخر- الضد، كما نتعرف على طريقة تفكيره وأسلوبه في إدارة الصراع الثقافي. المؤلفة باحثة يهودية أميركية، لم تستطع ان تخفي ازدراءها للشخصية العربية، على رغم محاولة تقديمها في صورة مقبولة، الى حد ما، من خلال النماذج التي اختارتها. ولم يكن الهدف من تقديم النماذج، إلا إعلاء النموذج الاخلاقي للإسرائيلي، الذي "يتعامل مع الآخر بقدر كبير من التسامح، على رغم أن هذا الآخر يهدد وجوده". كما ان تناولها الصراع العربي - الإسرائيلي يتسم بروح غربية يهودية متحيزة، على حد تعبير الدكتور ابراهيم البحراوي، ما يجعل رؤيتها قاصرة في فهم السياق التاريخي لهذا الصراع. تقدم صورة العربي في الكتاب، باعتباره نقيضاً للمشروع الصهيوني. كما يقدم التضارب الذي تشهده الساحة الثقافية والسياسية الصهيونية، حول الحلول المطروحة للتعامل مع هذا العدو العربي، على امتداد قرن من الصراع معه. إن الأزمة الحقيقية التي تواجه أي كاتب، عند محاولته تصوير عدو له، هي أن الخيال في النص لا يستطيع الصمود أمام الواقع، من هنا يواجه هذا النص بعدم التصديق. وتتمثل المشكلة في المسافة التي تفصل بين المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني، وبين القارىء الحقيقي والقارىء الضمني. تشير رايوخ الى أن أعمال الكتّاب الأوائل، أمثال سيملانسكي وشامي وبيرلاوستافي، كانت تجعل كلاً من المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني والقارىء الحقيقي على وفاق، وقد جمع بينهم اتجاه لرؤيتهم للموضوع، ونحو تمثيله أدبياً. أما في العقود الأربعة التي تلت 1948، فقد واجه الأدب الإسرائيلي موقفاً مختلفاً، فحين يزيد التوتر ينحو الأدب عادة نحو السياسة، ويحيل النص الى خدمة الايديولوجيا. العربي يبدو في أعمال كثيرة من الأدب العبري، بمثابة الصورة المغايرة لليهودي في الاختبارات الأخلاقية والنفسية التي يمر بها. وترى المؤلفة أنه يمكننا النظر الى شخصية العربي في الأدب الإسرائيلي، من مناظير مختلفة. وهي تقوم بتقسيم الأدب العبري الإسرائيلي الى اتجاهين رئيسيين: الأول: اتجاه واقعي، يصور المصاعب والخبرات القاسية التي واجهها المستوطنون الاوائل، وهذا الاتجاه ما زال مستمراً. الثاني: اتجاه رمزي، يتميز بأشكاله الساخرة التي تتجاوز الواقع، وتحاول أن تخلف استعارة أدبية، كما تربط الحاضر بإطار أكبر ذي سمة كونية وأسطورية تاريخية. وقد ظهر هذا الاتجاه في مراحل متأخرة نسبياً. وعن أجيال الكتابة في إسرائيل تقول رايوخ أنه كانت هناك ثلاث هجرات رئيسية، قام بها اليهود الى فلسطين، قبل قيام الدولة. بدأت الموجة الاولى في نهاية القرن التاسع عشر، واكتملت عام 1903، وضمت 30 ألف يهودي، تحولوا الى ملاّك أراضٍ زراعية. أما موجة الهجرة الثانية 1904-1914 فقد ضمت 40 ألف يهودي مهاجر، معظمهم من الشباب الصهيوني المتحمس، الذي يحمل مبادئ وأفكار الإحياء القومي والاشتراكي للجماهير اليهودية في فلسطين. أما موجة الهجرة الثالثة، فقد تمت في الفترة من 1919-1924 وشملت 35 ألف يهودي. وكل موجة كانت لها تركيبة اقتصادية فريدة، لكن ما يميز كلاً منها أسبابه المختلفة، إذ تراوحت دوافع الهجرة، من وجهة نظر رايوخ، ما بين المثالية والايديولوجية والهروب من الخطر. ومن الواضح أن المؤلفة اتبعت التوصيفات السائدة داخل إسرائيل، في تقسيمها للأجيال الأدبية الإسرائيلية، فالجيل الاول هو جيل الآباء المؤسسين، الذي ينتمي الى موجة الهجرة الاولى والثانية، والجيل الثاني هو جيل "البالماخ" نسبة الى احدى المنظمات العسكرية، واغلب هذا الجيل من الموجة الثالثة، وكذا "الصابرا" الذين ولدوا في فلسطين، وكانوا شباباً عام 1948، اما الجيل الثالث، فهو الذي تنتمي ابداعاته الى ثلاث حقب، من بداية الستينات حتى نهاية الثمانينات، ويطلق عليه "جيل ما بعد الدولة". وتؤكد المؤلفة على أن الفروق الفنية والنفسية لأدب كل جيل، على رغم ضيق الفاصل الزمني في ما بينها، كانت واضحة تماماً، ويأتي هذا التباعد والتباين نتيجة لاختلاف الأسس النفسية التي شكلت رؤية كل جيل، اضافة الى ان التغيرات التي اكتنفت عملية تشكيل الدولة، كانت سريعة ومباغتة، وبالتالي من الطبيعي أن تنتج الفروق، داخل تقسيمات المجايلة الثلاثة. اعمال الأدباء المؤسسين في الروايات والمجموعات القصصية، التي صدرت قبل عام 1948، تصور العلاقة بين العربي والإسرائيلي، في بعض الاحيان كعلاقة إخاء، وفي معظم الاحيان علاقة صراع. لقد نظرت روايات المهاجرين الاوائل الى العربي، باعتباره "المتوحش النبيل" الذي لم تفسده الحضارة، والمؤلفة ترجع تلك النظرة الى الاصول السامية المشتركة، والتشابه الكبير بين اللغتين العربية والعبرية، مما ادى بالمستوطنين الى ان يتطلعوا ليصبحوا جزءاً من الشرق، وأن يفكروا في اصولهم المفقودة، وطبقاً للوهم الرومانسي الذي يرى الحاضر بعيني الماضي، اعتبر أدب تلك الفترة ان البدو هم يهود، ضلوا اصولهم الحقيقية حين اتبعوا اساليب الحياة العربية. ويذكر موشى سميلانسكي 1874 - 1935 ويوسف حاييم بيرنر 1881 - 1921 بعض الصفات الايجابية، بل إننا نجد أن الشخصية الرئيسية في اعمال سميلانسكي دائماً عربية، وتتساءل رايوخ عن اسباب افتتانه بشخصية العربي: هل هو افتتان بسحر الشرق وقذارته؟، أم بسبب الإعجاب بقوة التقاليد العربية؟ اما بيرنر فكان يرى أن العرب في فلسطين هم اصحاب الارض الفعليون، على رغم فقرهم وجهلهم، كما انهم هم الذين اعطوا فلسطين سمتها المميزة. وفي قصصه، يقدم بيرنر العربي كنموذج مرغوب به، لانه يمثل بشدة كل ما كان ينقص اليهودي: الانتماء، والاستمرار، والجذور الضاربة في الارض، لكنه في الوقت ذاته، كان يرى أن العربي هو مصدر خوف واشمئزاز، ليصبح العربي نقطة التقاء ثنائيات متضادة: الإعجاب والكراهية، ثم الافتتان والاشمئزاز. جيل البالماخ 1948: لقد اعدت حرب 1948 من وجهة نظر المؤلفة معظم الكتّاب الإسرائيليين للدخول في الواقع، كما انها شكلت في داخلهم علاقة اكثر تعقيداً مع الارض، كما اثارت قضايا خلقية في شخصية البطل في الأدب الاسرائيلي، لعل اهمها فكرة "العدالة": أهي في المعتقدات الفردية، أم في الضرورة القومية الجمعية؟ ولكن، من المؤكد - طبقاً لتصور رايوخ - ان تلك الحرب، قامت بدور البوتقة التي صهرت اول جيل حقيقي من الأدباء الاسرائيليين، وكان ابرز أدباء هذا الجيل: يزهار 1916 - ... وموشى شامير 1921 - ... ويهودا بيرلا 1886 - 1969 ويتسحاق شامي 1889 - 1949 إلى جانب اهارون ميجد وناثان شحوم. العربي في اعمال يزهار، يتبدى في صور عدة، تندرج داخل وحدة واحدة، فهو ينظر الى العربي باعتباره جزءاً من المكان، ويصفه بأنه على وفاق مع الارض، كما أن العرب في اعماله ليسوا موجودين فقط في شكل محوري، بل لهم اسماؤهم وكياناتهم المستقلة. والمجال الأدبي في اعمال بيرلا، هو الفرد الشرقي الذي يستسلم للخرافة، وينكر حرية الارادة والاختيار، ويؤمن بالقدر كقوة مستقلة، على أن التعاطف الذي يتبدى في اعمال بيرلا، يعود الى انه واحد من "السفارديم"، ويعود - ايضاً - الى ان لديه معرفة فعلية بالثقافة العربية واللغة العربية، وكذا بالشعر والفلسفة والتاريخ العربي، ونجد ان مفتاح قصص بيرلا هو تصوير العلاقة الودية بين العرب واليهود، في شكل رومانسي، خصوصاً ما يتعلق بالعلاقة بين الرجال اليهود والنساء العربيات!. وتعتبر رايوخ ان بيرلا يكتب رواية عربية بلغة عبرية!! ففي كل اعماله، نجد ان الراوي هو ذلك اليهودي الغريب، الذي يتأثر بشدة بالثقافة العربية، كما ان العقلانية ليس لها دور في حياة ابطاله، وهذه الحقيقة مهمة في فهم اسلوب تصويره للعربي، في كتاباته الاولى. وتشير رايوخ الى ملاحظة مهمة، وهي ان أدب ما قبل 1948 عموماً، يصور العربي وهو يحافظ على وحدة الارض، كرمز للرسوخ والاستمرار. من الستينيات الى الثمانينات ينتمي الكُتاب الإسرائيليون في هذه العقود الى ما يسمى "جيل الدولة"، وعلى رغم قصر المدى بين هذا الجيل وجيل 1948، الا ان البون بينهما شاسع. فقد انغمس الجيل السابق في قيم واهتمامات الاستيطان، اما الجيل الثاني فقد عمت أدبه منذ بداية الستينيات، روح مختلفة تماماً، فمن ناحية تأثر الأدب الجديد بشدة بكافكا والأدب الوجودي، اضافة الى ان الكتاب الجدد اصبحوا يبسطون فكرة رئيسية، تقلب الادوار بين العربي واليهودي، حيث يصبح العربي - في أدبهم - هو الضحية، وصاحب الارض الذي اجتث جذوره. ان كتاباً من امثال يهو شواع، وعاموس عوز، وديفيد غروسمان، يبينون في كتاباتهم كيف أن العربي اصبح جزءاً من النفس الاسرائيلية، ربما لانه مصدر قلقها الرئيسي في شكل عام. ومن الواضح ان مساءلة النفس داخل الأدب الإسرائيلي في هذه الفترة، تهتم ببعض القضايا الاخلاقية، فلا احد يزعم ان كون المرء سويدياً أو دنماركياً له دلالة اخلاقية ما، لكن كون المرء إسرائيلياً، يصبح على العكس ذا مغزى اخلاقي، وهذا المغزى ينعكس على أدب جيل بناء الدولة. لقد اكتسب نقد الذات لدى هذا الجيل، ما يمكن ان نسميه ازمة قيم. أخيراً تشير رايوخ الى ان وجود الكتّاب الاسرائيليين داخل فلسطين، كان يقدم كدليل على التزامهم بالفكرة الصهيونية، ولكن يمكن لنا ان نقول بأمان، مثلما قال دان ميرون، ان الأدب العبري استمر، حتى في الثمانينات، يتأثر بطرق التعبير المرتبطة بالحلم الصهيوني، لكن هذا لا يقلل من حقيقة أن هذه الطرق تتصارع في الوقت نفسه مع الفكرة الصهيونية. علينا أن نقرأ اعمال بيرنر أو عجنون او شنهار، لندرك مدى تعقد حوارهم مع الصهيونية، ويذهب حاييم هزاز، الى القول إن الصهيونية واليهودية ليسا سواء، بل قد تتعارضان، حيث يرى أن الصهيونية تبدأ من نقطة تدمير اليهودية تماماً. * كاتب مصري.