القدر وحده، وبسخرية واضحة، منح خورخي لويس بورخيس في آن معاً عشق الكتب والعمى. كان عالمه عالماً كتابياً، عالم الكلمات والجمل والحروف التي تتقافز من حوله ككائنات حية ومع هذا فقد كان عاجزاً عن رؤية هذه الكتب والكلمات. كانت العلاقة علاقة روحية تنغرس في القلب وتنهض بأيدي الشغف الذي لا ينتهي. كان بورخيس عاشقاً للكتب فالتصق بالكلمات وابتعد عن الألوان والموسيقى والأصوات والأشكال. القدر وحده، أيضاً، أرسل شاباً مولعاً بالكتب، هو الآخر، ليقرأ لبورخيس الروايات والقصص والأشعار. كان بورخيس يقرأ بعيني هذا الشاب وكان الشاب يتجول بين السطور بمخيلة الكاتب الكفيف. هذا الشاب لم يكن سوى ألبيرتو مانغويل الذي سيعود ليكتب عن شغفه بالكتب وولعه بالحروف وهيامه بالكتابة. سيكتب، تماماً مثل بورخيس، عن المكتبة والأماكن المتخيلة وبوابات الفردوس والموسوعات والقصص الغريبة. سيكتب عن تاريخ القراءة. ولكنه سيكتب أيضاً عن صحبته لذاك الكائن الخرافي الذي يعيش من أجل الكتب وبفضل الكتب. "صحبة بورخيس"، هو الكتاب الذي يدون حكاية الحب الكبير: حب الكلمات والحروف. إنه الحب المشترك لبورخيس ومانغويل. بفضل مانغويل سنعرف أن بورخيس كان يحب السفر على رغم عجزه عن رؤية الأماكن التي يزورها. لم يكن يكترث كثيراً بأجسام العالم الواقعي الفيزيائي من حوله باستثناء أجسام الكتب التي يجد متعة في حملها وتقليب صفحاتها وتلمس أغلفتها كما لو كانت كائنات حية. كان يحكي عن الصحراء العربية والآثار اليونانية والتماثيل الرومانية والجليد الأيسلندي والشوارع المبلطة في جنيف بلهفة وحنان. ولكنه كان يفعل ذلك لأن هذه الأشياء كانت انعكاساً لما سبق وقرأه في الكتب. الكتاب يأتي أولاً ومن بعده الواقع. الإنجيل والإلياذة وألف ليلة وليلة والرامايانا بالنسبة إليه أكثر واقعية من الواقع. حبه للفن التشكيلي كان نابعاً بدوره من حبه للأدب. بقدر ما كان الفن قريباً للنص الأدبي والشعر والخيال بقدر ما كان يجلب انتباهه. اهتم برسوم بليك ورامبرانت وصديقه الكاتالوني خول سولار وشقيقته نورا ولكنه كان يكره لوحات ألغريكو التي تمتلئ بالقساوسة ورجال الدين كما لو كان الأمر يتعلق برسم الفاتيكان. أحياناً كان يسمع موتسارت فتأخذه الحماسة ويهتف كيف أمكن له العيش كل هذه المدة من دون موتسارت ولكن ما إن تنقضي اللحظة"الموسيقية"تلك ويعود إلى عالم الكتب حتى ينسى كل شيء. الكتب بالنسبة الى بورخيس هي لب الحياة: العيش مع الكتب، قراءة الكتب، كتابة الكتب، الحديث مع الكتب، الحديث عن الكتب."الحديث عن الكتب هو حوار بدأ منذ البشرية ولن ينتهي قط". العالم بالنسبة إليه مكتبة. المكتبة هي الصورة المثالية للكون الذي يقوم في ذهنه. المكتبة هي الجنة. الموسوعات والقواميس هي المدن والقرى والبلاد التي يعشقها. في الموسوعات كان بورخيس يزور البلدان ويتتبع الأنهار ويتسلق الجبال ويشاهد الشلالات. رحلاته كانت على صفحات الكتب وزياراته تجري في بطن المجلدات الضخمة. مكتبته في البيت لم تكن تحتوي كتبه فكتبه ليست له إنها كتب الآخرين. العلاقة بالواقع لا تنهض إلا بعد أن تكون أخذت شرعيتها من الكتب. الواقع هو كل ما يجد مرجعيته في الكتب. الكتب تشكل الإطار الفاضل، وربما الوحيد، لحياته. وسيلته الهائلة للتغلب على فكرة الموت تكمن في اللغة. كان بورخيس يتشرب اللغة ويقوم بتطويعها وتطويرها وتشذيبها كما لو كان الأمر يتعلق بشجرة خالدة. لقد جعل من نفسه بستانياً في حديقة اللغة. أتقن بورخيس التعامل مع اللغة وأخذ يفتح لها أفقاً لم يفطن إليه أحد من قبله. لم يتردد في القول إن أحداً لن يأتي بجديد في ميدان اللغة الإسبانية فكتب قصيدة بعنوان: إلى كاتب شاب عبثاً تراودك فكرة الإتيان بما هو جديد لأنه مهما كتبت فلن تفلح في تخطي ما كتبه بورخيس كان الحلم من الوساوس الأبدية لبورخيس. وهو أراد على الدوام أن يكتب ليس عن الحلم وحسب بل كالحلم. وهو كتب في هذا الشأن: سعيت دوماً أن أكتب قصة كالحلم ولا أظن أنني أفلحت قط. كان النوم شيئاً جميلاً ينتظره بورخيس بلهفة لأنه حافل بالأحلام. الدقائق القليلة التي تسبق النوم تغدو شبيهة لحظة الاستعداد للانتقال إلى عالم آخر لا يمت بصلة لهذا العالم. تلك اللحظة الرشيقة التي تفصل بين اليقظة والحلم هي برهة لا توصف بكلمات. ينبغي أن يتهيأ المرء لملامسة طيفها بروحه فهي لحظة لا تتكرر."أغمغم بكلمات لا معنى لها، أرى أماكن مجهولة، أدع نفسي تنزلق على منحدر الأحلام". وإذا كان الحلم وسواساً لبورخيس فالمتاهة كانت كابوسه. مثلها مثل المرآة. أمران طالما سلبا اللب من كينونته. صادف المتاهة للمرة الأولى، وهو بعد طفل صغير، كرسم محفور في قعر صحن نحاسي. بيت من غير أبواب وفي داخله وحش. الطفل داخل البيت والوحش يتهيأ للانقضاض عليه. المرايا ترعبه لأنه، حين كان يبصر، كان يخاف أن يحدق فيها فيرى وجهاً غير وجهه. وجه شخص آخر لا يشبهه. أو أنه كان يخاف ما هو أسوأ من ذلك: ألا يرى أي وجه على الإطلاق. يتوقع المرء على الدوام أن تعكس المرآة وجهه ولكن ماذا لو كفت عن فعل ذلك وعكست مكان الوجه فراغاً عميقاً؟ كان بورخيس مستلقياً على الفراش في جنيف، قبل وفاته بوقت قصير، حين زارته مارغريت يورسنار. طلب إليها بورخيس أن تذهب إلى البيت الذي كان يسكنه في المدينة من قبل وتعود فتصفه له. فعلت يورسنار ذلك ولكنها لم تأت على ذكر مرآة عملاقة كانت معلقة في مدخل البيت. لم تشأ أن تبعث الرعب في أوصاله. كان ينبغي أن يكون محيط بورخيس زاخراً بكل ما يرتبط بالكتاب. كانت ذاكرته أشبه بمستوطنة من الكتب. هذه المستوطنة تضم أرشيفاً ضخماً من المؤلفات التي دونتها الأقلام مذ كان القرطاس والقلم. هناك على الدوام كتاب واحد يتوارثه الناس من جيل إلى جيل. الحال أن نصاً واحداً كتب مرة وبات يتكرر من دون توقف. وإذا ما ضاع كتاب في لحظة ما فسيأتي من يكتبه مرة ثانية. ثمة كتاب يبذلون الجهد ليضعوا العالم بين ضفتي كتاب. وثمة كتّاب يشكل العالم لهم كتاباً مفتوحاً من دون توقف. كان العالم بالنسبة إليه كتاباً سرمدياً لا نهاية له وكان سعيداً أنه أتقن قراءة هذا الكتاب وأدرك مغزاه. فقد كان متيقناً من أن السعادة كلها تقوم على صفحات الكتاب. كانت كلماته الأخيرة هي:"لا أعرف لماذا يشدني الإيمان بأن الكتاب يجلب السعادة إلينا. إنني أشعر بالامتنان لذلك". الأرجح أن هذا الشعور كان يراوده حين أطبق عينيه للمرة الأخيرة في 14 حزيران يونيو من العام 1986 في جنيفالمدينة التي قرأ فيها هاينه وفرجيل وكيبلينغ ودي كوينسي.