غالبا ما تلاقي المعاناة الشديدة لملايين الناس، في إندونيسيا، والصومال، والسودان، والبوسنة، ورواندا، وكمبوديا، الإهمال أو يتأخر الاعتراف بها إلى ما بعد حدوث خسائر مروعة بسبب الموت والمرض واليأس. وإذا كانت هناك بعض الأزمات، مثل تسونامي، التي تشغل الرأي العام العالمي، فإن معظمها لا يجد منا من يسلط عليه الأضواء، مما يترك عددا لا يحصى من الأسر من آسيا إلى أفريقيا وغيرهما من المناطق محرومة من الحد الأدنى من المساعدة الإنسانية. وفي وقت ازداد فيه عدد البلدان الغنية ورخاؤها أكثر من أي وقت مضى، ما زلنا ممعنين في تجاهل معاناة الإنسان على نطاق واسع. وفي الوقت الراهن، يمكن للكارثة التي تنشأ محليا أن يمتد أثرها بسرعة ليشمل العالم أجمع. وفي عالم الاتصالات الفورية والتجارة العالمية هذا، يكتسب مفهوم مساعدة الجار للجار معنى جديدا. غير أن أحد الأسئلة الأزلية ما زال مطروحا، أي كيف يجب أن يكون رد فعلنا إزاء معاناة بني الإنسان؟ تتحد الديانات الكبرى الثلاث، التي يزيد عدد أتباعها مجتمعة على نصف سكان العالم، في إجابتها على هذا السؤال. فالمسلمون وغيرهم من أهل الكتاب يؤكدون مبدأي المسؤولية والرأفة الأساسيين إزاء أضعف الفئات المجتمعية. وتتفق هذه الديانات أن الرأفة لا حدود لها لأن المعاناة البشرية لا هوية لها. وتستند المساعدة الإنسانية مباشرة إلى هذا الأساس الأخلاقي المشترك بتأكيدها على الكرامة المتأصلة لكل فرد ومسؤوليتنا المشتركة عن مساعدة جميع من يعانون. ومن خلال عملنا، نؤمن نحن العاملين في مجال الأنشطة الإنسانية بأن حياة الإنسان لها قيمة واحدة، بغض النظر عما إذا كان الفرد يعيش في جاكارتا أو القدس، في القاهرة أو كلكتا، في باندا آتشيه أو بوينوس آيرس أو بوسطن. وفي عالم يبلغ فيه عدد اللاجئين أو المشردين داخل بلدانهم 45 مليون نسمة وحيث تيتّم 12 مليون طفل من جراء الإيدز، وينام 800 مليون شخص جوعى كل ليلة، أصبحت ضرورة "تفعيل الشعور بالرأفة" أكثر إلحاحا الآن من أي وقت مضى. إننا نعيش في عصر التناقضات. إذ نفاخر بالتفوق التكنولوجي الذي لم يكن سوى مجرد حلم يراود الأجيال السابقة. غير أننا أخفقنا في مواكبة هذه الثورة التكنولوجية بصحوة ضمير أقوى وأكثر استمرارية. وإننا وإن كنا معجبين بسخاء معظم المسلمين ومؤسساتهم الخيرية، نلاحظ أن 90 في المائة من التبرعات تمر عبر قنوات ثنائية خارج الأممالمتحدة والمؤسسات المتعددة الأطراف. والواقع أن استخدام منظومة الأممالمتحدة يعزز فعالية مؤسستنا العالمية ويزيد شفافية تبرعات البلدان الإسلامية ويسلط الضوء عليها. نتبع بصفتنا عاملين في مجال الأنشطة الإنسانية مجموعة من المبادئ العالمية، أهمها مبدأ الحياد، أي أنه ينبغي تقديم المعونة حسب الحاجة وليس حسب المعتقد أو الجنسية أو العرق أو أي معيار آخر. والعاملون في مجال المعونات الإنسانية جهات فاعلة محايدة ومستقلة عن أية مصالح حكومية أو عسكرية أو اقتصادية. وعلى مر السنين، قدمت الأممالمتحدة وشركاؤها في مجال الإغاثة الإنسانية المعونة في حالات الطوارئ من أفغانستان إلى زمبابوي، مساعدة ملايين المدنيين الذين يعانون في الأراضي الفلسطينية المحتلة والسودان وإندونيسيا والصومال والبوسنة وأماكن أخرى. وللأسف، نعلم أن رد الفعل على بعض الأزمات أقوى بكثير منه إزاء أزمات أخرى. ومن شأن توخي الحياد في رصد موارد المعونة الإنسانية المقدمة حسب الحاجة أن يجعل من السخاء الذي أُبدي في أزمة تسونامي قاعدة وليس استثناء، فيما يتعلق بطريقة رد فعلنا على جميع حالات الطوارئ. فلو كانت الحاجة المعيار الوحيد للعمل لما عانت عشرة آلاف أسرة أصابها الجفاف في الصومال من الجوع هذا الصيف، ولما مات أطفال إريتريا من جراء الافتقار إلى مياه نظيفة. وتبين التجارب أن نقص التمويل والإهمال أكثر شيوعا من السخاء عندما يتعلق الأمر بمساعدة الواقعين بين شقي رحى النزاعات أو الذين يعانون من الكوارث والأمراض. ولنأخذ القرن الأفريقي مثلا، بما فيه إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا، حيث يوجد حوالي 15 مليون شخص معرضون للجوع بعد جفاف كاسح. إذ وجهت الأممالمتحدة في نيسان أبريل 2006 نداء إقليميا من أجل القرن الأفريقي، طلبت فيه جمع مبلغ 855 مليون دولار لما يزيد على 8 ملايين شخص يحتاجون الى معونة طارئة بصفة عاجلة، بمن فيهم حوالي مليون ونصف مليون طفل دون سن الخامسة. غير أنه لم يقدم حتى الآن سوى أقل من 40 في المئة من إجمالي المستهدف من نداء الطوارئ هذا. ولم يلق العالم الخارجي بالا أو يكاد لمحنة القرن الأفريقي. والتمويل ليس المعيار الوحيد للإهمال الذي يلاقيه مجال الأنشطة الإنسانية، غير أنه أكثر المعايير قابلية للقياس، وبالتالي فإن استعماله أكثر شيوعا. وقد ظل تمويل الأنشطة الإنسانية لحل الأزمات غير كاف على مدى السنين بالمقارنة مع الاحتياجات الميدانية من جهة والغنى المتعاظم لعدد متزايد من البلدان المتقدمة النمو من جهة أخرى. وبصرف النظر عن الحاجة، يتفاوت مقدار التمويل تفاوتا كبيرا أيضا حسب الأزمات والقطاعات. إذ لم يُمول نداء واحد من بين كل خمسة نداءات إنسانية للأمم المتحدة سوى بنسبة تقل عن 50 في المائة في العام الماضي، ولم تتلق النداءات في المتوسط سوى نسبة 66 في المائة من التمويل اللازم، مثلما كان الحال في السنوات الست الماضية. وعندما تَقصُرُ الموارد التمويلية لوكالات المعونة الإنسانية عن تلبية الاحتياجات، فإن أكثر الفئات عجزا عن تحمل تخفيضات المساعدة، مثل اللاجئين والمرضى والذين يعانون من سوء التغذية، هي التي تدفع الثمن غاليا، بل إن ذلك يودي بحياتها أحيانا. وببساطة، فإن الافتقار إلى موارد يُترجم إلى خسارة في الأرواح ومعاناة طويلة الأمد لأضعف الناس. والواقع أن كلمة "إهمال" ليست كافية على الإطلاق لوصف درجة التفاوت في الموارد الذي يقسم ساحة العمل الإنساني. من الواضح أن بإمكاننا ومن واجبنا القيام بعمل أفضل. فتقديم المعونة يجب ألا يكون لعبة حظ، بل حق أساسي من حقوق الإنسان. وعلينا أن نتحول عن الحظ إلى تحقيق قابلية التنبؤ، حتى يتلقى جميع من يحتاجون الى المعونة حاجتهم، بصرف النظر عن معتقدهم وعن الاعتبارات السياسية أو مدى اهتمام وسائل الإعلام بهم. ومن الخطوات المهمة في هذا الاتجاه إنشاء صندوق الأممالمتحدة المركزي للاستجابة لحالات الكوارث الذي بدأ أعماله مؤخرا للتصدي للأزمات الإنسانية. ويخصص الصندوق ثلث موارده لأنشطة أساسية ترمي إلى إنقاذ الأرواح في الأزمات الجديدة والمفتقرة دوما للتمويل الكافي حيثما وقعت. والصندوق من هذا المنطلق تعبير عن مسؤوليتنا المشتركة عن خدمة أضعف سكان العالم وأكثرهم معاناة من الإهمال. ولدى الصندوق، الذي تموله حكومات منها الكويت وإندونيسيا وباكستان ومصر ومنظمات خاصة وأفراد، مبلغ 261 مليون دولار حاليا ابتداء من 16 حزيران يونيو 2006 من التبرعات المعلنة، أي حوالي نصف المبلغ الذي نسعى إلى جمعه. والصندوق ليس عصا سحرية بطبيعة الحال، لكنه سيساعد كثيرا على تصحيح بعض أوجه الخلل التي تترك ملايين البشر في حاجة شديدة إلى المساعدة في الأزمات المهملة. لقد أدت الجماعات الدينية على مر السنين دورا حيويا في إذكاء الوعي بالأنشطة الإنسانية وجمع الأموال لها. والرأفة بالفقير والمريض واليتيم والمنكوب من التعاليم الأساسية لجميع الأديان الكبرى. وتقوم جماعات مثل هيئة الإغاثة الإسلامية ومؤسسة الآغا خان وجمعيات الهلال الأحمر، إلى جانب مؤسسات خيرية، بتنفيذ أنشطة المساعدة الإنسانية الأساسية في جميع أنحاء العالم. وجلبت هذه الجماعات وغيرها من المنظمات الدينية غير الحكومية المساعدة إلى الذين يعانون والمنسيين الذين هم في أشد الحاجة إليها. وتعمل المنظمات الدينية غير الحكومية في السودان وشمال أوغندا وإندونيسيا وغيرها كشريكة أساسية لوكالات الأممالمتحدة في مجال الأنشطة الإنسانية مثل منظمة الأممالمتحدة للطفولة اليونيسيف، ومفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة. وأخيراً، دعونا لا ننسى بأن خلف كل أزمة مهملة جانبا إنسانيا. فضحايا الأزمات يحتاجون إلى المساعدة، لكنهم يحتاجون أيضا إلى معرفة أن معاناتهم لن تُنسى وأن قصتهم ستُروى. وفي نهاية المطاف، فإن قصتهم هي قصتنا نحن أيضا. فالإهمال ينتهي حيث تبدأ النزعة الإنسانية، أي بالاعتراف بإنسانيتنا المشتركة. * وكيل الأمين العام للامم المتحدة للشؤون الإنسانية