البعض منا كان يظن أن مخزون العمل السياسي لصناعة السلام وحل النزاعات في المنطقة"كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، و"سلام الشجعان"بين رابين وعرفات، ووادي عربة، وتأييد الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني للسلام، والإنسحاب الإسرائيلي من لبنان، والمبادرات الأميركية والدولية - من كلينتون إلى شرم الشيخ إلى خريطة الطريق - والمحاولات غير الحكومية الفلسطينية-الإسرائيلية الجريئة لاقتراح حلول وسطية تفصيلية - مثل وثيقة جنيف - ومبادرة السلام العربية، وإنغماس جزء من العالم العربي في الإصلاح والديموقراطية، وتفكيك مستوطنات غزة، وهدنة الفصائل الفلسطينية، وانتخاب رئيس فلسطيني يصر على مفردات السلام، وإنسحاب اليمين الإسرائيلي إلى الوسط السياسي... قد يزيد من فرص السلام في المنطقة وينهي المواجهات العسكرية والدموية ويرفع سقف الخطوط الحمراء التي تحافظ على الإنسان والمكان. ولكن اليوم، وبعد أكثر من خمس سنوات من الاستنزاف اليومي الذي بدا لوهلة قد أنهك الإسرائيليين والفلسطينيين، نشهد حصاراً شاملاً على فلسطين، وصواريخ تسقط على شمال إسرائيل، وتدميراً منهجياً للبنية التحتية في لبنان. مشهد يصيغه العسكر. وكما في معارك العقود الثلاثة الماضية، ليس هناك ما يشير إلى أن أي من الأطراف سيحسم هذه المعركة. بل من المرجح أن هذا الذي يحدث اليوم سيؤدي إلى مزيد من الاستنزاف للحياة والسلام والاستقرار في المنطقة، ومزيد من الضحايا والمعاناة، ومزيد من المتطرفين الأشبه بالمجانين، وتجاوزاً لمزيد من الخطوط الحمراء... ومزيد من اليأس والكره. وكالعادة تعلو الأصوات من المنطقة وخارجها:"إسرائيل تدافع عن نفسها"،"لبنان يدافع عن نفسه"،"فلسطين تدافع عن نفسها"،"المجتمع الدولي يدافع عن السلم الدولي". فتحت هذا الشعار ينغمس الكل في العنف، وكأن العنف والشراسة هما الخيار الوحيد. الكل يقذف الآخر، بشكل أو آخر، بالمتفجرات فيصيب الآخر وينتظر ما سيقذفه به الآخر ليصيبه. الأسواء أن الأطراف تتعود على العنف الجديد وتتعايش معه دون إدراك منها لما تراكمه من خلل استراتيجي ثقافي وسياسي واقتصادي واجتماعي. ويعزز التعايش مع العنف والدمار شعارات واهية تهمش صوت الاعتدال والمنطق وتعزز اللامبالاة والتطرف وتمهد لجولة جديدة من عنف وتدمير أشد وتؤجل أجندة الحياة. وعند كل منعطف للدم يتحول الإعلام العربي والإسرائيلي والدولي إلى ثلاث نسخ من الإعلام لا تشبه بعضها بعضاً، بل يبدو الأمر وكأنه إعلام لكائنات من ثلاثة كواكب مختلفة، تزدحم شاشاتها ب"الخبراء الاستراتيجيين والعسكريين"، وعدد منهم يهلوس ويقول كلاماً أقرب إلى التحريض والتعبئة الجماهيرية والعلاقات العامة والحرب النفسية منه إلى التحليل. وتأتي الوفود السياسية والديبلوماسية. ويتنقل عباقرة السياسة في المنطقة وخارجها بينما توثق الكاميرات حركتهم المكوكية"قرارات واقتراحات ومبادرات ومؤتمرات، ومن المرجح أنها جولة أخرى من عبقرية الفشل السياسي. فالتجاوز المستمر للخطوط الحمراء والإنغماس في العنف لم يُبقِ مكاناً"لفن الممكن"أو للقانون الدولي أو الدولي الإنساني، ولا لتلك المفاهيم الأخلاقية والدينية التي تسكن مدينة القدس ويدعي الكل أنه يقاتل من أجلها. المشهد ليس فقط مقزز لأنه مليء بالدم والجثث والدمار وإنما أضحى مملاً لأنه يكرر نفسه منذ أكثر من نصف قرن. الأخطاء نفسها، والمنطق السياسي نفسه، والنتائج نفسها. ولا حسم للحرب بل عمل سياسي وديبلوماسي أقرب إلى حالة العجز والتواطوء منه إلى الحل. وسيدعي الكل، وعند انتهاء المعركة، بأنه المنتصر. فالخبرة تؤكد أن لا حل عسكري للصراع العربي-الإسرائيلي، بل أن الخيار العسكري يؤخر حله ويعقده. وأن لا حسم لهذا الصراع على قاعدة رابح-خاسر. وأن جميع المغامرات العسكرية تميزت بتضخيم الأهداف وسوء تقدير للزمن وإفراط في القوة يصل الى حد جرائم الحرب. وأن غياب السلام الدائم والشامل على الجبهة الإسرائيلية-الفلسطينية يغذي بؤر صراع أخرى في المنطقة، وبدورها تغذيه وتسمح لأجندات إقليمية ودولية أن تخترقه وتستخدمه كورقة سياسية. يعيش اليوم على أرض فلسطين التاريخية، تلك البلاد المهمة والصغيرة جغرافياً، سكان نصفهم تقريباً من الفلسطينيين بينما النصف الآخر من اليهود-الإسرائيليين. لقد أضحى من الواضح أن أيا من الشعبين لا يستطيع السيطرة على مصير الآخر أو إلقاءه خارج المكان. ولا خيار أمامهما سوى التعايش، ولا يمكن لذلك أن يحدث إلا بخلق ظروف ملائمة وعادلة تسمح بتحقيق حل الدولتين، ذلك الحل الذي قد يصبح غير ممكن مع مرور الزمن. وفي قلب تلك البلاد مدينة مقدسة تسكنها بامتياز مقدسات وتاريخ للأديان التوحيدية الثلاثة. ولذلك فإن صعود التطرف العقائدي، في المنطقة والعالم، يثير الخيال والخوف من المصير الذي قد يأخذنا إليه هذا الصراع. فالتطرف يستفيد من غياب الحل لإثارة الحساسيات الدينية والتوتر الطائفي، ولتغذية المزاج العام بأساطير تفتح شهية التدمير المقدس الذي يحول المكان إلى خراب. اليوم وأكثر من أي وقت مضى هناك حاجة إلى حل جدي وجذري للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والعودة مباشرة إلى طاولة المفاوضات لحل جميع القضايا الأساسية حلاً جذرياً وواقعياً على أساس حل الدولتين. والعمل على إحياء قيم السلام، والبناء على ما تم إنجازه من مبادرات بما فيها مبادرة السلام العربية، وإنغماس جدي ومكثف للمجتمع الدولي، ودور أكثر نزاهة وفعالية للوسطاء الدوليين والإقليميين. ولا بد من تحييد الأجندات الإقليمية والدولية عن هذا الصراع، ومنح مساحة كافية لصوت العقل والمنطق ليشارك في صناعة السلام بدلاً من تعجيزه بالشروط والتهميش. ولا بد من التركيز على بناء وحماية لبنان ونموذجه الديموقراطي والحداثي الذي بدا واعداً قبل الإنفجار الحالي، وتعزيز سيادته واستقلاله والحوار السلمي بين مكوناته. ولا مفر من رفع سقف الخطوط الحمراء، هذا السقف الذي وصل اليوم حد القاع وأضر بالقيم الإنسانية. اليوم، ليس هناك شرق أوسط كبير أو صغير أو جديد أو ديموقراطي أو ... بل شرق أوسط حزين ومعذب. ينشر هذا المقال بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.