كانت غالبية الدول النامية تنظر بارتياب إلى الاستثمار الأجنبي المباشر، وتفضل اللجوء إلى الاقتراض الأجنبي للوفاء بمتطلباتها المالية الخارجية للاحتفاظ بسيطرتها على شؤونها الاقتصادية والسياسية، بعيداً من نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات التي يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً معظم الاستثمار الأجنبي المباشر. لكن هذا الوضع تغير خلال العقدين الماضيين لسببين أساسيين، أولهما التطورات في النظام المالي العالمي التي أحدثتها أزمة الديون في بداية عقد الثمانينات والتي أوضحت خطورة الاعتماد الشديد على الاقتراض الأجنبي، وثانيهما اهتمام الشركات المتعددة الجنسيات بمتطلبات الدول المضيفة واستخدامها ترتيبات مبتكرة للاستثمار تناسب هذه الدول، مثل المشاريع المشتركة، ومشاريع تسليم المفتاح، وترتيبات البناء والتملّك والتسليم، واتفاقات منح التراخيص، بدلاً من الحالات التقليدية للفروع المملوكة بالكامل للشركات الأم. ويوماً بعد يوم، ازداد تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، واتسع انتشار مشاريع الشركات المتعددة الجنسيات في الدول النامية والدول المتقدمة على حد سواء في إطار تنظيمي شبكي محكم وحول الكرة الأرضية بفضل ثورة المعلومات والاتصالات. وبفعل هذا الوضع، تحولت الأسواق والشركات والصناعات إلى سلسلة من النشاطات المتصلة التي تتجاوز الحدود الجغرافية بين الدول. ووفقاً للمعلومات المتاحة في أحدث تقرير لپ"الأونكتاد"عن الاستثمار العالمي واتجاهاته المختلفة، هناك 70 ألف شركة متعددة الجنسيات، تدير أكثر من تسعة تريليونات دولار استثمارات مباشرة لها حول العالم، فيما تزيد قيمة مبيعات الشركات التابعة لها وعددها 690 ألفاً عن 19 تريليون دولار. وتسعى هذه الشركات إلى مواصلة رفع مستوى استثماراتها المباشرة الموجهة إلى الدول النامية بهدف تحسين قدرتها التنافسية من خلال التوسع في أسواق الاقتصادات الناشئة السريعة النمو، خصوصاً الغنية بالموارد الطبيعية بما يساعدها على ترشيد أنشطتها الإنتاجية، والاستفادة من وفورات الحجم، وخفض تكاليف الإنتاج. ويتضح من التقرير أن حصة الدول النامية من الاستثمار الأجنبي المباشر تبلغ نحو 233 بليون دولار، تشكل نحو 36 في المئة من مجموع الاستثمار الأجنبي المباشر في كل العالم. يلاحظ أن الاستثمار الأجنبي المباشر يفوق التدفقات الأخرى من رؤوس الأموال الخاصة إلى البلدان النامية، بما فيها تدفقات المساعدة الإنمائية الرسمية. ففي عام 2004 كان نصيبه أكثر من نصف جميع الموارد المالية المتدفقة إلى الدول النامية، وكان أكبر بكثير من المساعدات الإنمائية الرسمية التي تقدم معظمها إلى الدول الأقل نمواً. وعموماً تستحوذ دول آسيا على المرتبة الأولى من حيث توزيع الاستثمار الأجنبي المباشر على دول العالم، تليها دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي. وبتفصيل أكثر تتصدر الصين، وهونغ كونغ والبرازيل والمكسيك وسنغافورة قائمة الدول النامية التي تتلقى استثمارات أجنبية مباشرة. وتتبوأ الصين المركز الأول كأهم موقع استثماري في آسيا للسنة الرابعة على التوالي، إذ جذبت عام 2004 نحو 61 بليون دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بزيادة نحو سبعة بلايين دولار عن عام 2003. وتأتي هونغ كونغ في المركز الثاني على مستوى آسيا إذ بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تدفقت إليها 34 بليون دولار، أي بزيادة 143 في المئة عما كانت عليه عام 2003، وهي أكبر زيادة سجلت في هذا المجال على مدى السنوات الماضية. وتأتي سنغافورة في المركز الثالث للسنة الثانية على التوالي، إذ بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تدفقت إليها نحو 16 بليون دولار مقابل نحو تسعة بلايين دولار عام 2003. أما بالنسبة الى الدول العربية، فما زالت حصتها في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر ضئيلة تقل عن واحد في المئة، وذلك بسبب وجود قيود تشريعية وتطبيقية في كثير من الدول العربية تحول دون امتلاك الأجانب للأصول المحلية، إضافة إلى تنامي حال من التحفظ العام لدى بعض الدول تجاه الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصاً في القطاعات المهمة كقطاع النفط، مع وجود تخوف لدى دول أخرى من الاستيلاء الأجنبي على الشركات المحلية المساهمة، على رغم أن فتح المجال للمشاركة الأجنبية في أسهم الشركات القائمة من خلال الأسواق المتطورة للأسهم، كان أبرز وسيلة استخدمتها الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول المتقدمة. وعموماً، يظهر تقرير"الأونكتاد"ضآلة أداء الدول العربية في جذب الاستثمارات الأجنبية. ووفق بياناته المتاحة، يلاحظ على سبيل المثال لا الحصر، أن السعودية استقطبت عام 2004 نحو 91 بليون دولار، ومصر 31 بليون دولار، وكل من سورية والسودان نحو 21 بليون دولار. ويلاحظ من التقرير نفسه أن مصر تصدّرت الدول الأفريقية من حيث تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إليها عام 2004. إذ بلغت نحو 31 بليون دولار مقارنة بنحو 237 مليون دولار عام 2003 بنسبة ارتفاع 420 في المئة، وتبوأت بهذا المركز 108 من حيث جذبها للاستثمار الأجنبي المباشر، بعدما كانت تحتل المركز 124 عام 2003، وذلك من بين 140 دولة على المستوى العالمي. وهذه الزيادة هي أكبر نسبة زيادة يحققها الاقتصاد المصري خلال السنوات العشر الماضية، في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، ويعزو تقرير"الأونكتاد"ذلك إلى سياسة التحرير الاقتصادي والتخصيص المتبعة في مصر، والتي ساهمت في جذب استثمارات أجنبية مباشرة جديدة في عدد من القطاعات الاقتصادية المهمة، وجعلتها تصبح ضمن أعلى عشر دول مستقبلة لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر على مستوى أفريقيا. وعلى رغم عدم توافر بيانات تصنف مصادر تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الدول العربية، فإن ثمة مؤشرات تفيد أن جزءاً كبيراً منها لا يأتي من الشركات المتعددة الجنسيات، بل من مصادر عربية، خصوصاً من الدول العربية النفطية كالسعودية والإمارات والكويت. إن تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر على درجة عالية من الأهمية للدول العربية، لما يحمله من تدفقات مالية، ومعارف تكنولوجية وخبرات إدارية وتسويقية مفيدة لاقتصاداتها. وليست العبرة هنا في إصدار قانون واحد لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وتقديم المزايا والمساواة في المعاملة بين رأس المال المحلي والأجنبي، بل في تطوير البيئة التشريعية بكاملها لتتلاءم مع متطلبات الانفتاح والاندماج في الاقتصاد العالمي، ولتوفير مناخ جاذب للاستثمار الأجنبي، قادر على خلق الثقة لدى المستثمر الأجنبي بجدوى الاستثمار في الدول العربية في مختلف الأنشطة الاقتصادية والخدمية. ولنا في الصين، ودول جنوب شرقي آسيا وبقية الدول النامية عبرة لما تقدمه من جهود كبيرة لتحسين بيئتها الاستثمارية، بإصدار القوانين واللوائح الجاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر. وتجدر الإشارة الى أن هذه الدول أجرت 241 تغييراً في قوانينها عام 2004، استهدف 235 تغييراً منها اتخاذ خطوات لفتح مجالات جديدة أمام الاستثمار الأجنبي المباشر. كما وصل في السنة ذاتها عدد اتفاقات الاستثمار الثنائية، واتفاقات الازدواج الضريبي إلى 2392 وپ2559 اتفاقاً على التوالي، على الصعيدين الدولي والإقليمي، استهدفت زيادة الانفتاح تجاه الاستثمار الأجنبي المباشر. إن تزايد تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر في ظل انفتاح الأسواق، وتدويل الأسواق المالية العالمية، وترابطها وحرية انتقال رؤوس الأموال بين الدول من دون حواجز ومعوقات، يعمل على زيادة أطر التفاعلات الاقتصادية والعلاقات التي تربط الدول العربية بالعالم المحيط، واندماجها بأسواقه. وهذا لا ينسينا أن هذه الظاهرة لها حساسيتها وكلفتها على المدى القصير قبل أن تبدأ نتائجها الإيجابية في الظهور، ما يستوجب على الدول العربية أن تعمل على توفير الأجهزة المؤسسية والإدارية القادرة على توجيه توجهات ومسار الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومراقبتها وتجنيب اقتصاداتها أي مخاطر أو أزمات قد تنشأ عنها، إضافة إلى تعظيم مكاسبها وآثارها الإيجابية. خبير اقتصادي في"المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط"