"في حلقة كان يسود فيها الاعتقاد ان كاتب هذه السطور قد حل، في أبحاثه، الغاز الحلم الرئيسة، ثار الفضول ذات يوم بصدد الأحلام التي لم تحلم قط حقاً، أي تلك التي يعزوها الروائيون الى ابطالهم الخياليين. وقد تبدو فكرة اخضاع هذه الفئة من الأحلام للتمحيص والدراسة فكرة باعثة على الدهشة وغير ذات جدوى، ولكنها لن تبدو بلا مسوّغ اذا ما نظرنا اليها من زاوية معينة". بهذه العبارات يفتتح سيغموند فرويد واحدة من أهم الدراسات التي ربط فيها بين عناصر مساره الفكري الثلاثة: الفن، التحليل النفسي، والحلم. وهي الدراسة المعنونة"هذيان وأحلام في غراديفا جنسن". والحال أن فرويد ينطلق في بحثه هذا، بحسب مترجم هذا الكتاب الى العربية جورج طرابيشي، من سؤال أساسي هو: ما هي إمكانات التحليل النفسي في تفسير الأعمال الأدبية والأعمال الفنية في شكل عام؟ والجواب أتى، بقلم فرويد، بدءاً من هذه الدراسة التي تبرهن على ان الفرويدية لا تكتفي بالبحث عن توكيد لأطروحاتها في الاعمال الفنية، ولا تكتفي بأن تطبق على الشخصيات التي خلقتها مخيلة الفنان، قوانين الحياة النفسية التي اكتشفتها لدى العصابيين، بل تتطلع الى تفسير عملية الابداع الفني بالذات والى بيان الكيفية التي بنى بها الروائي روايته. ويؤكد لنا جورج طرابيشي في هذا المضمار ان تحليل فرويد لرواية"غراديفا"هو"أول محاولة من نوعها في هذا المضمار، ولكنها أيضاً المحاولة النموذجية بالنسبة الى كل تأويل تحليلي ? نفسي للأعمال الفنية والأدبية". * المطلعون على أعمال فرويد يعرفون ان هذه الأعمال شغلت مكانة أساسية في تحليلات ابي التحليل النفسي، ودراساته، هو الذي كان بالكاد يفرق، كمادة مستخدمة في أشغاله، بين الحالات العيادية الحقيقية، والأحلام، والأعمال الفنية... حيث انها، كلها بالنسبة اليه، مواد تصلح لسبر أغوار النفس الإنسانية... وهذه هي مهمة المحلل النفسي الرئيسة على أية حال. وفرويد ليس بعيداً من هذا. فهو، إذ يكتشف رواية جنسن هذه بعد أن يكون قد فرغ من كتابه"علم الأحلام"، نتنبه بسرعة الى أن هذه الرواية الخيالية الغريبة، تلتقي بأحلامها وباستيهامات بطلها، مع نظرته الى الحلم باعتباره قبل أي شيء آخر"رغبة محققة"... أي تحقيق وهمي لرغبة حقيقية، ناهيك بكونه أيضاً، وبحسب فرويد"ارهاص قلق، مشروع، جدال داخلي". وفرويد قبل أن يبدأ بدراسة حال"غراديفا"يدخل ويدخلنا معه في السجال الأبدي الذي يدور بين العلم الذي لا يعطي الحلم أي معنى أو مدلول باعتباره مجرد"إشارات جسمانية تهز، أثناء النوم حبال الآلة النفسية"، وبين الشعراء والروائيين وأهل العصور القديمة والخرافة الشعبية"من الذين يرون للحلم انعكاسات ومعاني، ذات علاقة بصميم فكر الانسان واستيهاماته ورغباته ونوازعه. وفرويد يعلن منذ البداية وقوفه الى جانب الأخيرين ضد أهل العلم، ولكن انطلاقاً من ان"تفكير الناس وانفعالاتهم يستمران في الاحلام". وما دراسة فرويد الدقيقة - والطريفة أيضاً - لرواية جنسن، سوى تطبيق لهذه النظرة. * صدرت رواية"غراديفا"في العام 1903 في طبعة جديدة وكان مؤلفها جنسن لا يزال حياً وسيقول لنا فرويد في مقدمته لطبعة ثانية من كتابه انه، قبل وفاة جنسن في العام 1911 حاول جاهداً ان يثير اهتماماً بالدراسة التحليلية التي وضعها هو عنها، لكن جنسن لم يبال بذلك أبداً ولم يمد يد المساعدة... ما كان الرجل قادراً على فهم هذا التدخل لپ"علم النفس"في عمل فني صرف!! المهم ان فرويد، لكي يقدم تحليلاته مستخدماً هذه الرواية - التي ستدخل الخلود من باب اهتمام فرويد بها، لا من باب جودتها الفنية -، يطلب من قارئه ان يترك دراسته زمناً ليعيد قراءة الرواية... ثم بعد ذلك يقوم رائد التحليل النفسي بتلخيص الأحداث، متوقفاً عند بعض المفاصل المهمة في أحداثها. وهذه الأحداث تبدو على أية حال غرائبية، متسارعة الايقاع، وتخدم فرويد الى حد كبير في تحليله. وبطل الرواية عالم آثار شاب يدعى هانولد، يعثر ذات يوم في حانوت على تمثال أثار اعجابه وصنع بسرعة نسخة منه وضعها في مكتبه ليدرس التمثال من خلالها ويتأمله. ولعل أكثر ما أثار افتتان هانولد بالتمثال هو مشية المرأة الحسناء التي يمثلها. فهي مشية مندفعة شفافة مدهشة تبدو الحسناء فيها وكأنها تطير، حتى وان كانت احدى قدميها تلامس الأرض، والثانية لا يلامس الأرض منها سوى الابهام. المهم ان هانولد من خلال تأمله للتمثال يغرم بصاحبته، وتبدأ أحلامه تنهال عليه معيدة اياه الى مدينة بومباي الإيطالية، حيث يرى الحسناء وأطلق عليها اسم غراديفا - أي الى الأمام - كفتاة في المدينة يدمرها التمثال في العصور القديمة... وحين يفيق الشاب من أحلامه، لا يعود واثقاً انها احلام، بل يبدأ رحلة غامضة للبحث عن فتاته. وهذه الرحلة الحقيقية التي يقوم بها، تختلط بأحلامه ورؤاه خلالها... حتى اليوم الذي تنتقل فيه غراديفا من أحلامه الى رؤاه في حياته اليومية، وخصوصاً حين يبدأ لقاءها في بومباي نفسها، ويتعرف اليها ويحدثها في أوقات محددة من أيام متتالية، ما يدفعه أول الأمر الى الاعتقاد انها شبح لا أكثر... والغريب انه في المرة الأولى التي يتحدث فيها اليها يتحدث باليونانية، ثم بالرومانية، فتفاجئه بأنها تتكلم الألمانية سائلة إياه لماذا لا يكلمها بالألمانية وهو الألماني. وعلى هذا تختلط الأمور أمام صاحبنا أكثر وأكثر، وتصبح حاله حال فتاة القصيدة العبثية التي حلمت، ليلة، انها فراشة، وحين أفاقت في اليوم التالي لم تعد تعرف أهي فتاة حلمت انها فراشة أم فراشة تحلم انها فتاة، ومنذ ذلك الحين صارت ايام هانولد تمر بين لقاءات بغراديفا التي تبيّن ان اسمها زوي، واختفاء لها... خوف منها وحلم بها، خصوصاً منذ راح الحديث يدور بينهما اما عن لقاءات جرت قبل ألفي سنة بينهما، واما عن صداقة معاصرة تجمعهما منذ الطفولة. * وإذ يواصل فرويد سرد أحداث الرواية في تعقيداتها وتشابكاتها، يتوقف ذات لحظة ليتساءل كيف تراه، بعد أن كان يريد سبر حلمين أو ثلاثة في الرواية، انصرف الى رصد التطورات النفسية لبطليها... ذلك ان فرويد تعامل مع بطلي الرواية وكأنهما شخصان واقعيان، وليسا من ابتكار المخيلة الشعرية، حتى وان كان سيكتشف خلال تحليله شخصية هانولد، ان هذا لا تثير أية امرأة حية اهتمامه، بقدر ما أثاره تمثال من حجر... وهذه هي النقطة الرئيسة التي يلج فرويد عبرها لدراسة موضوعه، وبالتالي - وهذا ما لم يكن في نيته أول الأمر -، لخلق زاوية جديدة يُنظر من خلالها الى الفن ويحلل... حيث نعرف الآن ان عدداً كبيراً من الباحثين الذين اتجهوا خلال القرن العشرين الى دراسة الأعمال الأدبية على ضوء منهج التحليل النفسي، انما كان رائدهم هذا النص لفرويد، أكثر من انطلاقهم من دراساته حول أوديب أو الملك لير أو دافنشي او حتى دوستويفسكي، وكلها نصوص ستحدد بدورها دروباً جديدة للدراسات الأدبية طوال القرن العشرين، في لعبة تبادلية يلعب الفن والأدب فيها دوراً أساسياً في التحليل النفسي، في مقابل لعب التحليل النفسي دوراً أساسياً في فهم تلك الأعمال. * إذا كانت دراسة سيغموند فرويد، عن رواية"غراديفا"أول محاولة من نوعها في هذا المضمار، ولكنها أيضاً كانت، بحسب الباحثين"المحاولة النموذجية بالنسبة الى كل تأويل تحليلي نفسي للأعمال الأدبية والفنية، في شكل نعرف ان كتاباً كثراً رفضوا تطبيقه على أعمالهم وعلاقة هذه الأعمال بحياتهم... لخوفهم من فضح ما، ومن صفحات كتبوها أو عبروا عن أحلامهم فيها - ناسبينها الى أبطالهم -، فإذا بالتحليل النفسي يأتي الآن ليقول انها تسبر دواخلهم رغماً عنهم!