غيرت نهاية الحرب الباردة الواقعة النووية، أي الحقائق المادية مثل مخزون السلاح والبيئة الناجمة عن الثورة النووية وتأويلاتها، من حال الى حال. فانتهى الثنائي الأميركي - السوفياتي، ومعه ردع القوي خصمه القوي ونظيره الوحيد. وانتشر السلاح النووي على نحو جديد منذ طي الحرب الباردة. والوجه الثالث هو ظهور استراتيجية دفاع مضاد للصواريخ في ظروف تقدم تقني. وفي إطار ردع الضعيف خصمه القوي، وفي إطار الردع النووي عموماً، لا يتوقع انتفاء الحرب أو إلغاؤها. فما ينتفي، والحال هذه، بين القوى النووية هو العدوان في سبيل الاستيلاء على الأرض الوطنية. وهو ما يعرف بالمصالح الحيوية. فالمصلحة الحيوية هي مادة الدولة الحية، أي سكانها وأعمالهم وأنشطتهم الأساسية. وتتلخص المصلحة في أمرين متلازمين: وحدة الأراضي الوطنية واستقلال القرار السياسي. ويترتب على تعريف المصلحة الحيوية، وربطها بالأرض والسكان والقرار، استحالة ضمان قوة نووية حماية أراضي حليف أو مصالحه. فأراضي الحليف ومصالحه لا تدخل تحت تعريف المصلحة الوطنية تعريفاً دقيقاً. ورجل مثل هنري كيسينجر أدرك مسوغات شك الجنرال ديغول في مبادرة الولاياتالمتحدة، آلياً، الى الرد على عدوان سوفياتي على أوروبا بشن هجمات مدمرة. والأمر يتعلق بصدقية الردع. والصدقية رهن بما يفكره المعتدي المحتمل، وليس بما أفكره أنا، من يتوقع أن يصبه العدوان. وفي أثناء الحرب الباردة، كان السبب في نجاح الردع ما سميته"فضيلة الذرة والسلاح الذري العقلانية". فالمقارنة بين ما يؤمل ربحه والثمن المتوقع للمغامرة، تحمل على العقل أو العقلنة، وبين الشعوب التي تجمعها دائرة ثقافة وحضارة مشتركة، يحصل إجماع على الوظيفة التي يضطلع بها العنف المسلح في حل الخلافات. وهذا الاتفاق يضمر سلم معايير وقيم ينهض عليه نظام اجتماعي - سياسي، وتنهض عليه معاهدات دولية. وقد تنتهك قواعد النظام هذا. ولكن انتهاك القواعد شيء غير الجهل بها أصلاً. ولا شك في أن انتشار السلاح النووي الحالي طاول دولاً من خارج نطاق الثقافة والحضارة المشترك. والحق أن سير العالم نحو التوحيد يقلل من فرادة النطاق الغربي. هذا من وجه. ومن وجه آخر، فأنا لا أزال عند رأيي في"فضيلة الذرة والسلاح الذري العقلانية". والسبب في ثباتي على هذا الرأي هو قانون الرجاء السياسي - الاستراتيجي، أي المقارنة بين المربح المتوقع وبين التكلفة. وفي وسع من شاء أن يذهب على خلاف فرضي أو قانوني هذا. ولا يحق لي أن أكذِّب من يذهب هذا المذهب، فمضمار المناقشة هو الاحتمال والظن. ويدعو أصل أو مبدأ الأمان الى التحصن من خطر فرض يخالف فرضنا، أو خطر إحجام الخصم عن المقارنة التي أفترضها قانوناً سياسياً - استراتيجياً. فالردع قد لا يبلغ غايته، وينبغي التحوط لجواز الفشل هذا. وهذا يصدق في حال إيران. فأنا أرجح أن إيران تريد امتلاك السلاح النووي. فهل تسري عليها"فضيلة العقلنة"التي أنسبها الى الذرة والسلاح الذري؟ الانتشار النووي منذ نهاية الحرب الباردة، وهو شمل الهند وباكستان، كان عامل استقرار. وهو لم يلغ الحرب، ولكنه حفظها تحت المستوى النووي. فإلى اليوم، لم تكذب الوقائع قانون العقلنة. وقد ينبري غداً مجنون، أو امرؤ ليس مجنوناً وإنما يرى الأمور في ضوء افتراضات مختلفة، فيخلص من افتراضاته الى أفعال لا نحتسبها. وتكنُّ إيران مشاعر عداء لإسرائيل، ولكنها تخشى الأميركيين وموقفها منهم دفاعي. فإذا امتلكت القنبلة الذرية، هل يُعقل أن تنتهج استراتيجية عدوان تجاه جيرانها؟ فإذا أرادت إيران تدمير إسرائيل، فالأرجح أن يستدرج ذلك رداً نووياً إسرائيلياً مصحوباً ربما بهجوم نووي أميركي، فالأميركيون يقدرون أن حماية إسرائيل مصلحة حيوية على المعنى الذي تقدم. عليه، تغامر إيران بجر عمليات مدمرة عليها. وإذا استبعدنا افتراض مصلحة تدعو الرئيس الإيراني الى مهاجمة أحد جيرانه بسلاح نووي، انتقل سلاحه الى باب أنظمة المنع أو الحظر. فالسلاح النووي، إذ ذاك، يصلح وسيلة دفاع من عدوان يرمي الى تغيير النظام، أو إلى إقرار موازنة جديدة للقوى في المنطقة. وإذا احترمت إيران"فضيلة الذرة العقلانية"، خدم السلاح النووي استراتيجية ردع، وأدى الى الاستقرار. وهذا ما أرجحه. وقد أخطئ. وفي الأحوال كلها، ينبغي ألا نغفل عن أن السلاح النووي ليس سلاح دمار شامل مثل الأسلحة الأخرى. ويترتب على طبيعته الفريدة منطق يماشي هذه الطبيعة. وزيادة عدد الدول النووية يعقد المسألة، ويشرع الباب على عالم جديد لا ندري ما قد ينجم عنه. ولا مناص من قبول هذه المنزلة القلقة. عن لوسيان بوارييه جنرال في الاحتياط، أحد أصحاب العقيدة النووية الفرنسية،"لوموند"الفرنسية، 28-29/5/2006