يبدو المشهد السياسي الراهن في مصر ولأسباب متعددة شديد القتامة. فمنذ انتهاء الانتخابات التشريعية في كانون الاول ديسمبر 2005 ونخبة الحزب الوطني الحاكمة آخذة في الانقلاب تدريجياً على مساحات الانفتاح السياسي التي صاغها حراك العامين الماضيين وبلغت ذروتها بحصد فصيل المعارضة الأهم، جماعة"الإخوان المسلمين"، لثمانية وثمانين من مقاعد مجلس الشعب. تدلل على ذلك سلسلة القرارات التي مررت في الأشهر القليلة الماضية خاصة تلك المتعلقة بتأجيل الانتخابات المحلية وتمديد العمل بقانون الطوارئ، الى جانب تصاعد معدلات العنف تجاه حركات الاحتجاج الشعبي والارتكان إلى منطق العقاب والترهيب السلطوي حين التعاطي مع نزوع الهيئة القضائية نحو استقلال نسبي مشروع. وبغض النظر عن المعوقات في طريق التحول الديموقراطي من شاكلة ضعف الطبقة الوسطى وتحالف البورجوازية مع النخبة واختراق شبكات الفساد والإفساد الحكومية لمعظم قطاعات المجتمع، هناك ثلاثة أسباب رئيسية تفسر ما يحدث اليوم في مصر. فمن جهة أولى ما زالت النخبة الحاكمة عاجزة عن صياغة رؤية استراتيجية واضحة المعالم لمضمون وكيفية إدارة عملية التحول الديموقراطي. فمن المعروف عن النخب الحاكمة السلطوية وشبه السلطوية أنها لا تتخلى عن خوفها ومقاومتها للتغيير ولا تشرع في إنجاز إصلاحات سياسية جوهرية إلا إذا تأكدت من إمكانية بقائها في السلطة وضمان قدر معتبر من مصالحها الاقتصادية والاجتماعية واستطاعت بناء تحالفات مصالح مع عدد من قوى المجتمع الفاعلة المتوقع إفادتها من التغيير. وحينما نشرِح المواقع التي تحتلها نخبة الحكم المصرية الآن نكتشف أنها تعاني من اختلالات حقيقية على جميع هذه الأصعدة. فإمكانية البقاء في السلطة وبالتبعية ضمان المصالح، يتهددها شبح غياب الرئيس مبارك وغموض سيناريوهات الخلافة السياسية والرفض الشعبي المتصاعد لأكثرها احتمالاً، وهو الانتقال الوراثي. كذلك لم تنجح النخبة في بلورة تحالفات مع المطالبين بالتغيير، بل استعدت بلاعقلانية بادية جميع القوى بما فيها تلك المنتمية الى مؤسسات الدولة مثل القضاة وأساتذة الجامعات الحكومية. محصلة هذه الاختلالات هي هيمنة حالة ذعر مستمر من المستقبل بين عناصر النخبة تدفعها لرفض التغيير والتحايل على ذلك إما بخطاب باهت حول تدرجية الإصلاح وحاجة النخبة الى مزيد من الوقت لإنجازه حديث أمين سياسات الحزب الوطني الحاكم جمال مبارك أمام المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير بشرم الشيخ أو بالتصوير الاختزالي لحركات المعارضة على أنها فئة محدودة من أصحاب المصالح الخاصة تصريحات رئيس الوزراء أحمد نظيف على هامش المنتدى نفسه. تمثل تصدعات المعارضة المصرية وتضارب خياراتها الاستراتيجية السبب الثاني لقتامة المشهد الراهن. فشلت أحزاب اليمين واليسار وكذلك جماعة"الإخوان المسلمين"بقواعدها الشعبية الممتدة والحركات الاحتجاجية مثل"كفاية"في التطوير النوعي لفعلها السياسي خلال العامين الماضيين بصورة تتناسب مع تحديات عملية التحول الديموقراطي. فواجب المعارضة في لحظات التغيير هو بالأساس الضغط لنقل الصراع مع النخبة الحاكمة إلى مساحات جديدة وصياغة توافق الحد الأدنى بين فصائلها حول جوهر الإصلاحات المرجوة وأساليب ومراحل تطبيقها. وعلى رغم أن قوى المعارضة أنتجت تقارباً ملحوظاً في ما يتعلق بمفردات الإصلاح الدستوري والسياسي، إلا أنها تظل عاجزة عن تطوير رؤى برامجية واقعية يمكنها الدفع باتجاه تطبيقها. الأخطر من ذلك هو حقيقة أن المعارضة في مجملها مازالت تراوح في ذات المواقع التي انطلقت منها لإحداث زخم تغييري منذ عامين من دون نقلات نوعية تذكر. فمن بدأ معتمداً على الوجود في الشارع كحركة"كفاية"مازال يدور في جنباته ويفتقد أي إطار للفعل المؤسسي. أما الأحزاب السياسية التي ارتكزت على هامش تمثيلي محدود في المجالس التشريعية وعانت من ضعف قواعدها الشعبية فلا تختلف وضعيتها اليوم كثيرا عن هذا التوصيف. في حين تبدو جماعة"الإخوان المسلمين"، وبالرغم من تمثيلها غير المسبوق في مجلس الشعب، غير قادرة أو راغبة في حسم خياراتها تجاه النخبة الحاكمة إن بحثاً عن مساومات جزئية قد تفتح لها مساحات جديدة للفعل السياسي المنظم أو اتباعاً لنمط صراعي يزيد من تناقضات اللحظة الراهنة وتوظف الجماعة في سياقه ثقلها الشعبي الكبير. تفسر تصدعات المعارضة هذه، على الأقل جزئياً، تهافت قواها على تسييس صراع القضاة مع النخبة حول قانون السلطة القضائية والمبالغات الرومانسية في تقييم"انتفاضة نادي القضاة"التي اعتبرها البعض بداية نهاية حكم مبارك. فدور السلطة القضائية، مهما ارتفع سقف استقلاليته، لا يمكنه أن يتخطى حدود إضفاء الشرعية القانونية والإجرائية على عملية تحول ديموقراطي تنجزها النخبة الحاكمة والمعارضة توافقياً أو تنتزعها الأخيرة في سياق صراعي. أسهمت ثالثاً سلسلة من التحولات الإقليمية والدولية في تمكين النخبة المصرية من الانقلاب على مناخ الانفتاح الذي ميز العامين الماضيين. إقليمياً، وبغض النظر عن هيمنة سردية"ربيع الديموقراطية العربي"في 2005، لم تنتج عن تجارب الحراك السياسي، إن في لبنان أو الأردن أو اليمن أو البحرين، تغيرات جوهرية في طبيعة النظم السياسية القائمة هناك بل وبلغ معظمها في الآونة الأخيرة لحظة سكون بينة. لم تعد إذن نخبة الحكم في مصر تخشى التخلف عن اللحاق بقاطرة التحول الديموقراطي على نحو قد يهدد مركزية دورها في العالم العربي، فالقاطرة لم تنطلق في الاصل أو أجبرت سريعاً على التوقف. دولياً، فرض استمرار تردي الأوضاع في العراق من جهة وتنامي وزن التيارات الإسلامية استناداً إلى آلية الانتخابات خاصة في فلسطين ومصر من جهة أخرى على الولاياتالمتحدة وحلفائها الأوروبيين إعادة التفكير في سياسة دعم المشروع الديموقراطي في العالم العربي والبحث عن بدائل استراتيجية تضمن التوسيع المطرد لمساحات الحرية في المجتمعات العربية من دون أن يعني ذلك تهديد المصالح الغربية الحيوية في المنطقة أو تمكين الإسلاميين من الوصول إلى السلطة. وعلى رغم أن واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى لم تحسم أمورها بعد ويسيطر الغموض والاضطراب على توجهاتها، إلا أن الإرهاصات الأولى لمرحلة إعادة التفكير الراهنة تتمثل ولا ريب في انحسار الضغوط الأميركية والأوروبية الهادفة للدفع باتجاه إصلاحات سياسية جوهرية على النخب العربية الصديقة، ومنها النخبة المصرية. وأدركت هذه النخبة بخبرة الحليف القديم مضامين هذه الردة الغربية واستغلتها لتمرير موجة إجراءاتها السلطوية الجديدة من دون أن تخشى مشروطية سياسية تفرض على المساعدات العسكرية والاقتصادية واتفاقات الشراكة أو أن توصد أبواب البيت الأبيض أمام الوريث المحتمل. * باحث مصري في مؤسسة"كارنيغي"للسلام العالمي بواشنطن