ارتبطت مدينة بيشاورالباكستانية في الذاكرة العربية والغربية، الى حد كبير، بالحرب الأفغانية، خصوصاً بعد الانقلاب الشيوعي في أفغانستان في 27 نيسان ابريل 1978، وبروز دور المقاومة الإسلامية في أفغانستان التي دعمتها جهات كثيرة كان أبرزها باكستان ودول الخليج العربي ومصر، قبل أن تدخل واشنطن على الخط مباشرة بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان. "الحياة"زارت بيشاور بعدما هجرها أو هُجّر منها العرب وكثير من الأفغان ورصدت مناحي الحياة وما آل اليه الوجود العربي في هذه المدينة بعدما كان بلغ في الثمانينات قرابة 30 ألف شخص بحسب إحصاءات الحكومة الباكستانية. على منبسط من الأراضي تمتد بيشاور القديمة وضواحيها الجديدة على مساحة لا تقل عن بضع مئات من الكيلومترات المربعة تحيط بها الحقول والبساتين من كل جانب ويجرى قريباً منها نهر كابول الذي ينبغ من الأراضي الأفغانية إضافة إلى عدد من الترع المائية المتفرعة من نهر ورسك وغيره من الأنهار القريبة. وكانت أطراف بيشاور إلى حد قريب على الحدود مباشرة مع مناطق القبائل التي تديرها الحكومة في إسلام آباد بقانون خاص. يقطن حالياً في بيشاور ما يربو على أربعة ملايين نسمة غالبيتهم من البشتون أو الباتان، وهم رجال قبليون شديدو المراس يفتخرون بأصل آبائهم. ويباهون بأن أجدادهم في ممر خيبر والأراضي الأفغانية هزموا ثلاث حملات للمحتلين البريطانيين وكذلك حطم إخوانهم في الشطر الأفغاني أسطورة الجيش السوفياتي في أفغانستان، وكانوا سبباً في تفكك الاتحاد السوفياتي بعد عشر سنوات من غزوه الأراضي الأفغانية. تعتبر بيشاور من المدن التاريخية القديمة وفيها قلعة رممت أيام الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، كما أنها كانت على الدوام معقلاً للمقاومة الإسلامية ضد الإنكليز أثناء احتلالهم الهند. وتقع هذه المدينة المهمة على الطريق الرئيس الذي يصل باكستان بالعاصمة الأفغانية كابول حيث لا تبعد الحدود الأفغانية عنها أكثر من خمسين كيلومتراً. وتسببت الهجرات الأفغانية إلى بيشاور باكتظاظ سكاني كبير ما زالت تعاني منه المدينة على رغم عودة أكثر من مليوني لاجئ أفغاني إلى ديارهم. وبدأت الحكومة الباكستانية وحكومة الإقليم إقامة ضاحية جديدة أو مدينة جديدة قرب بيشاور سمّتها حيات أباد أي بلدة حيات نسبة إلى رئيس وزراء الإقليم الأسبق حيات خان شيرباو شقيق وزير الداخلية الحالي أفتاب أحمد خان شيرباو، فأصبحت هذه المدينة المقامة على طراز إسلام أباد مقراً لمجمعات حكومية إضافة إلى مساكن للكثيرين خصوصاً العائلات الأفغانية التي فرت من كابول بعد سيطرة المجاهدين عليها عام 1992. العمل الإغاثي في بيشاور بسبب القضية الأفغانية وهجرة أكثر من خمسة ملايين أفغاني إلى باكستان غالبيتهم في منطقة بيشاور أو المناطق المحيطة بها هرعت العشرات من مؤسسات الإغاثة الدولية والمنظمات غير الحكومية في الدول العربية والغربية لمد يد المساعدة للاجئين الأفغان، واتخذت المنظمات الإغاثية من بيشاور مقراً لها ما أوجد فرص عمل مناسبة لآلاف الأفغان والباكستانيين. وبحسب قول بعض المسؤولين الباكستانيين السابقين الذين أشرفوا على عمل الإغاثة في بيشاور فإن منظمات الإغاثة الغربية كانت تنفق ما يتراوح بين خمس وثلاثين إلى سبعين في المئة أحياناً من موازناتها على الأمور الإدارية والرواتب وأجور المكاتب بينما كانت المنظمات الإغاثية الإسلامية خصوصاً العربية تحاول جاهدة ألا تزيد نفقاتها في هذا المجال عن خمسة عشر في المئة مهما كانت الأسباب، وكانت تحاول جاهدة أن تبقي مصاريفها الإدارية تحت نسبة الإثني عشر في المئة انطلاقاً من الآية الكريمة"إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها"سورة التوبة. اللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيئات الأممالمتحدة المتخصصة بشؤون اللاجئين كانت السباقة في العمل الإنساني وسط اللاجئين الأفغان وكان لهذه المؤسسات مقار واسعة في بيشاور تعمل على إحصاء اللاجئين وتفقد أحوالهم وتقديم الدراسات عن الحاجات الملحة اليهم بالتعاون مع الحكومة الباكستانية. بينما كان الهلال الأحمر السعودي أول المؤسسات الإسلامية من خارج باكستان وصولا إلى اللاجئين الأفغان لتفقد أحوالهم ومد يد العون إليهم. العرب في بيشاور أولى مؤسسات الإغاثة العربية العاملة وسط اللاجئين الأفغان كانت جمعية الهلال الأحمر السعودي التي أقامت مكتبها في الفترة الأولى في العاصمة إسلام أباد مع وجود مكتب فرعي في كل من بيشاور وكويتا القريبتين من الحدود الأفغانية، كما عمل الهلال الأحمر السعودي على إقامة مستشفى بالتعاون مع القوات المسلحة السعودية في مدينة كويتا لمداواة جرحى الحرب الأفغانية ومد يد المساعدة الى الاجئين الافغان، وفي بيشاور تبنى كل احتياجات المستشفيات والمراكز الصحية العاملة وسط اللاجئين الأفغان أياً كانت الجهة التي تدير هذه المؤسسات الصحية. ولم يقتصر عمل الهلال الأحمر السعودي على الأمور الطبية فقد امتد عمله إلى جوانب الإغاثة الأخرى مثل تقديم الخيام والبطانيات للاجئين. وكان الهلال الأحمر الإماراتي يستورد أو يشتري ما يزيد سنوياً عن مئة ألف خيمة تصلح كل واحدة منها لإيواء عائلة بأكملها. جوانب الإغاثة الأخرى مشاريع الإغاثة الإسلامية امتدت من الإغاثة العاجلة ممثلة بالخيام والبطانيات والفرش والمواد الغذائية لمن وصلوا الأراضي الباكستانية، إلى مراكز صحية متقدمة على الحدود الأفغانية - الباكستانية ومستشفيات متخصصة لإجراء أهم العمليات الجراحية، إلى مدارس ومعاهد إعداد المعلمين في بيشاور للقيام بواجب تعليم جمهور اللاجئين الأفغان. وكان لمؤسسات الإغاثة العاملة في مجال التعليم وسط المهاجرين الأفغان في بيشاور دور في رفع نسبة التعليم لدى الشعب الأفغاني عموماً ولدى المهاجرين خصوصاً. فقد كانت نسبة الأمية في أفغانستان بين الذكور قبل الجهاد الأفغاني تصل إلى أكثر من خمس وتسعين في المئة ولدى الإناث تصل إلى تسع وتسعين في المئة. أما وسط المهاجرين الأفغان فقد ارتفعت نسبة التعليم في شكل كبير جداً. وبحسب المهندس أحمد شاه زي أول رئيس وزراء في حكومة المجاهدين ووزير التعليم السابق في اتحاد أحزاب المجاهدين الأفغان فإن ما يزيد عن نصف مليون تلميذ وتلميذة أفغانية كانوا في المدارس التابعة لاتحاد المجاهدين ومفوضية اللاجئين التابعة للحكومة الباكستانية ومنظمات الإغاثة الإسلامية حتى عام 1984، وهذه النسبة كانت تشكل أكثر من 20 في المئة من مجموع اللاجئين الأفغان آنذاك. لكن هذه الخدمات وبحسب ما يقول عبدالسلام الشريف المدير العام للجنة الكويتية المشتركة للإغاثة تقلصت في شكل كبير جداً منذ ما يقرب من عشر سنوات أو أكثر لأسباب عدة منها أولاً الاقتتال الداخلي في أفغانستان وتشويه الصورة التي كان عليها المجاهدون الأفغان خلال فترة الثمانينات ما أدى إلى تراجع التبرعات من العالم الإسلامي إضافة إلى بروز قضايا إسلامية أخرى شدت انتباه المتبرعين مثل البوسنة والهرسك والشيشان، إضافة الى تداعيات ما حصل للكويت بسبب الغزو العراقي وتأثر كل دول المنطقة بنتائج الغزو والحرب التي تلته. أما السبب الآخر والرئيس في تراجع التبرعات فهو النظرة الأميركية الى المؤسسات الإسلامية الإغاثية إذ اعتبرت بعضها ممولاً للإرهاب من دون دليل، وهذا أوقع الكثير من المؤسسات في حرج شديد ووضع عليها رقابة شديدة من الدول التي نشأت فيها أو الدول التي تعمل فيها هذه المؤسسات. وأضاف أنه قبل العام 1994 كان هناك أكثر من ثلاثين مؤسسة إسلامية خيرية في بيشاور ولكن الآن لم يعد هناك إلا مؤسستان تعملان في شكل رسمي هما اللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة والهلال الأحمر السعودي، وقد اشترطت الحكومة الباكستانية على المؤسسات العاملة أن يكون مدير مكتبها في باكستان إما من بلد المنشأ نفسه لمؤسسة الإغاثة أو أن يكون باكستانيا. كما اشترطت أن يكون أكثر من نصف العاملين في هذه المؤسسات من الباكستانيين الذين لا يملكون خبرات في تقديم العون الإغاثي.وأثر تصرف الحركات والجماعات الدينية في بعض الدول العربية على تواجد الرعايا في باكستان وأصدرت الحكومة الباكستانية وبناء على طلب من السفارات المصرية والليبية والتونسية والجزائرية خلال فترة التسعينات أوامر مشددة بعدم تجديد إقامة أي من رعايا هذه الدول سواء في العمل الإغاثي أو حتى الدراسة. وقال الشريف لپ"الحياة"إن الأوضاع المادية التي مرت بها اللجنة الكويتية المشتركة للإغاثة أجبرتها على توقيع اتفاق مع كلية الطب في جامعة بيشاور لإعطاء الكلية الحق في إدارة المستشفى التعليمي الذي أسسه الهلال الأحمر الكويتي في بيشاور عام 1983 وأصبح تحت إشراف اللجنة في ما بعد. مستشفى الهلال الأحمر الكويتي بني مستشفى الهلال الأحمر الكويتي عام 1983 وكان أكبر وأضخم مستشفى يتم بناؤه لخدمة اللاجئين الأفغان في باكستان، فهو يتسع لمئة وخمسين سريراً وفيه أقسام جراحة دماغ وأعصاب وعظام وجراحة عامة وقسم للنساء والولادة وقسم أخر للأسنان، وفي ظل الظروف الحالية يزور المستشفى ما يزيد عن مئة حال في مختلف الأقسام، كلها تعالج مجاناً بينما كانت هذه الأرقام تصل إلى أكثر من ستمئة حال يومياً. وقال الشريف إن اللجنة لم تتعرض لأي مضايقة من السلطات الباكستانية كما أنها تدير العديد من العيادات الخارجية والمراكز الصحية في عدد من مخيمات اللاجئين تخدم ما يقرب من نصف مليون لاجئ في هذه المخيمات حالياً، ولها مركز لصناعة الأطراف الاصطناعية في خوست الأفغانية يوفر الأطراف الاصطناعية لمتضرري الألغام والحرب الأفغانية ومركز آخر للمشلولين وآخر للعلاج الطبيعي في العاصمة كابول. العمل الإغاثي العربي في بيشاور كان سباقاً في تقديم المساعدة وأقيم عدد من المعاهد العليا لإعداد المعلمين الأفغان ومعهد لإعداد الممرضين إضافة إلى عدد من المستشفيات كان منها إلى جانب مستشفى الهلال الأحمر الكويتي مستشفى الفوزان الذي أقامته لجنة الدعوة الإسلامية الكويتية وأصبح أشهر المستشفيات لعلاج الأفغان في الثمانينات وأوائل التسعينات. وكان الهلال الأحمر السعودي يتكفل على الدوام شراء كل الأدوية الضرورية لكل المستشفيات العاملة في نطاق اللاجئين الأفغان في كل المناطق ويوزعها في شكل دوري. تراجع الدعم المادي للاجئين أجبر الأممالمتحدة والمنظمات الغربية على الرحيل عن بيشاور أو تقليص المساعدات المقدمة للاجئين الأفغان في الأراضي الباكستانية ما زاد في تعقيد مشكلة اللاجئين ومحنتهم. والظروف الأمنية والمعيشية في أفغانستان لم تشجع الكثيرين منهم على العودة إلى ديارهم، بينما شكل تراجع الدعم المادي العربي والإسلامي إضافة إلى الهجمة الأمنية على العرب في بيشاور سببين رئيسين في رحيل الكثير من العائلات العربية عنها. بعضهم عاد إلى موطنه الأصلي وآخرون فضلوا الهجرة إلى أوروبا وأستراليا وغيرها من الدول، وقلة قليلة رحلت إلى أفغانستان. مجلة"الجهاد"التي كانت المجلة الأشهر في تاريخ القضية الأفغانية امتد عمرها في بيشاور إلى أكثر من عشر سنين وكانت الناطق باسم القضية الأفغانية والصوت الداعي الى الجهاد الأفغاني. وبسبب الظروف الأمنية التي تعرض لها العرب ومؤسساتهم أجبرت المجلة على الإقفال على رغم أنها مسجلة رسمياً لدى الجهات المختصة في باكستان، وصدر منها ما يزيد عن مئة وعشرين عدداً شهرياً غير ما أصدرته من كتيبات ونشرات عن الجهاد عموماً وعن القضية الأفغانية خصوصاً. وطأة الأمن لم يقتصر تأثيرها في من قدموا للجهاد الأفغاني أو للإغاثة وسط اللاجئين الأفغان في باكستان. فجامعة بيشاور التي كانت تعج بمئات الطلبة من مختلف الجنسيات أصبح عدد الطلبة العرب فيها لا يزيد عن خمسين طالباً، معظمهم في كليات الهندسة والطب وطب الأسنان.. وبحسب محمد رأفت وهو طالب فلسطيني التقته"الحياة"في بيشاور فإن اقتران اسم بيشاور بالأفغان العرب جعل الكثير من العائلات ومن الدول العربية تحجم عن إرسال أبنائها للدراسة في جامعاتها، خصوصاً أن كل من يدرس في جامعات بيشاور سيكون عرضة للمساءلة الأمنية في أي دولة عربية يمر بها أو يزورها، حتى لو كان موفداً في شكل رسمي من بلاده للدراسة في هذه الجامعات. وأضاف:"نحن كطلاب عرب في بيشاور كنا وما زلنا نحظى باحترام الإدارة في الجامعة والشعب، والإجراءات الأمنية في المدينة أدت إلى تأخير إصدار الإقامات لكثير من الطلاب أحياناً والتشديد عليهم بعدم الخوض في الأمور السياسية في الجامعة أو خارجها".