كانت العلاقات الاوروبية - الافريقية عموماً والاسبانية - المغاربية خصوصاً تتأثر سابقاً بقضايا مثل الصيد البحري وسيادة سبتة ومليلية واستيراد الموارد الزراعية واستضافة المعارضة السياسية أو ما شابه ذلك. اما اليوم فإن أسباب التعكر او القضايا الشائكة التي باتت تقلق الطرفين اصبحت مختلفة. الاوروبيون لم يخططوا مسبقاً لايجاد حلول على المديين القصير او حتى المتوسط لمعضلات واضحة المعالم مثل الفقر والمجاعة والهجرة، رغم تفكيرهم"الحديث"والآليات ومراكز الدراسات التي يملكونها. وفي الوقت الذي كانت المنظمات الانسانية والمحللون الدوليون يحذرون من خطر انفجار قنبلة"الفقر والمجاعة"الموقوتة، كانت دول العالم الاول تبحث عن تحالفات سياسية واحياناً اقتصادية مع حكومات، لا يهتم معظم القائمين عليها إلا بالبقاء في السلطة من دون اي نية للبحث عن حل للمشكلة الاجتماعية القائمة في بلده، والتي زادت العوامل الطبيعية مثل التصحر والجفاف من شدة أضرارها. اما ما تخشاه الدول الاوروبية من تسلل المتطرفين والارهابيين وصغار المجرمين بين المهاجرين او في مجتمعاتهم فإن تبديد هذا الهاجس يصبح سهلاً وتهون معالجة اسبابه وظروفه بعد التفاهم وتوضيح الامور بصراحة بين الدول الاوروبية والافريقية وابراز الطرفين رغبتهما وارادتهما في حل المشاكل من دون تقديم المصالح الخاصة على المصلحة العامة، اوروبياً وافريقياً. وتبدأ الحلول بحسن استخدام فائض العالم الاول لسد احتياجات العالم الثالث، فهذا ليس اهداء للاموال وانما هو استثمار حقيقي يسهل التوزيع الصحيح للثروات في العالم. وهكذا فإن ما شهدته وتشهده اسبانيا في الآونة الاخيرة من"اجتياح"المهاجرين الافارقة، وليس المغاربيين وحدهم، لشواطئها لم يزرع الخوف فحسب في نفوس الاسبان بل ايضاً القلق من عدم التمكن من منح هؤلاء فرص حياة كريمة بسبب ضيق المساحة لديهم وكثرة عدد المهاجرين وقسوة القوانين التي لا تترك هامشاً واسعاً لحل المشاكل المختلفة، ما دفع البعض الى التحذير من ان تسبب ما يحصل او استغلاله لخلق اجواء كره للاجانب في المجتمعات القريبة من موانئ الوصول او حتى خارجها. أخيراً أفاقت الحكومات الاوروبية، بناءً على طلب اسبانيا بصفتها"دولة المواجهة"، وباشرت البحث عن حلول مستعجلة في بلدان المنشأ كان عليها ان تكون قد وضعتها منذ اكثر من عشر سنوات. كثرت المبادرات وتعددت الافكار وبدأت اسبانيا تستثمر علاقاتها الطيبة والايجابية القائمة مع بعض الدول على ضفتي المتوسط والمحيط الاطلسي لصالح حل هذه المعضلة. وبما ان الاوروبيين لم يصدقوا أن الحالة التي وصلت اليها الامور كانت ستحصل بهذه السرعة، فجأة بدأ موضوع الهجرة يشكل اولوية على جدول اعمال معظم اللقاءات الاوروبية وسارع هؤلاء الى دعم اسبانيا التي استقبلت شواطئها خلال النصف الاول من السنة نحو عشرة آلاف مهاجر. تؤكد الاحصاءات ان عدد الذين وصلوا بصورة غير شرعية على متن"زوارق الموت"الى اسبانيا بلغ نحو 100 الف مهاجر. يقول مؤسس"اطباء بلا حدود"، برنار كوشنير،"ان الجدران والحواجز لا تمنع الجائعين من تجاوزها لاطعام عائلاتهم". ان اكثر من نصف سكان افريقيا البالغ عددهم 900 مليون ينامون من دون عشاء فإن لم يبدأوا رحلاتهم من موريتانيا سيبدأونها من السنغال او غيرها. وبما ان جغرافية اسبانيا لا تتسع لافريقيا فهل تتسع اوروبا لها، ام ان المشكلة سيتم حلها بشكل آخر ربما يحمل معه مآسي كما حملت الهجرة غير الشرعية كوارث بشرية؟ بالنسبة الى الكوارث فإن عمق البحر وحده يمكنه الافصاح عما جرى فعلاً فوق سطح الماء في المتوسط والمحيط. وقد كتب السنغالي دياو سونكر، عندما شعر بقرب اجله مع 46 من رفاقه في عرض البحر حين كانت العواصف تضرب الزورق الذي يركبونه قرب جزيرة باربادوس:"لا اعتقد انني سأعيش. ارجو ممن يجد هذا الكيس، الاتصال بصديقي ابراهيما درامي لايصال هذا المبلغ 1300 يورو الى عائلتي". ويبحث الانتربول عن عامل ميكانيك اسباني يرأس"عصابة"لتهريب المهاجرين، يترك بعضهم احياناً في عرض البحر. وقالت مصادر امنية تمكنت من كشف زورق كبير يبحر وعلى متنه 188 شخصاً انه لم يكن لديهم طعام يكفيهم لبلوغ جزر الكناري الخالدات ولا وقود كاف في الزورق لهذه المسافة في حين كان قد دفع كل منهم 600 يورو في السنغال. اسبانيا فككت خلال الربع الاول من السنة 54 شبكة تهريب مهاجرين ثم لجأت الى الدوريات المشتركة مع بلدان افريقيا الشمالية التي يخرج منها المهاجرون، في مهمة شبه مستحيلة لضبط البحر. وساهمت أزمة الصيد البحري في موريتانيا مثلاً في تشجيع الهجرة السرية حيث استخدمت مراكب الصيد المتوقفة بعد شرائها بأسعار رخيصة. وفي حين كانت مصادر موريتانيا تؤكد أن مئات آلاف المهاجرين الافارقة يتمركزون فيها بانتظار بدء احدى"رحلات الموت"باتجاه اسبانيا كانت جهات أمنية تتهم المغرب بعدم بذل الجهد الكافي لمكافحة الهجرة السرية. لكن ذلك لم يؤثر في العلاقات الاسبانية - المغربية التي تمر بمرحلة احترام متبادل وتعاون في عمق الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالامور الصغيرة والدعايات، المغرضة احياناً، لم تعد تؤثر في الروابط الكثيرة التي تجمع هاتين المملكتين. كما أن اسبانيا تتبادل والجزائر وتونس علاقات سياسية جيدة كتلك القائمة مع المغرب رغم اختلاف نسبة التبادل التجاري مع هذه الدول. وهي توافقت مع موريتانيا أخيراً على خطة عمل مشتركة لمكافحة الهجرة تتضمن دعماً مادياً وتقنياً حيثما وعندما تدعو الحاجة. كان المهاجرون يتجهون سابقاً نحو المغرب والجزائر والصحراء الغربية لكن الدوريات المشتركة لتشديد المراقبة بغية سد طريق الهجرة ومكافحة الارهاب خففت من حركة المرور عبر هذه الدول. فعلى رغم عدم وجود ادلة على استغلال الارهابيين لوضع المهاجرين والتسلل بينهم الى الزوارق إلا أن هذا الامر غير مستبعد. وهكذا فقد بدأ الاتحاد الاوروبي و12 دولة افريقية برسم خطة لمكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية لطرحها على المؤتمر الوزاري الذي سيعقد في الرباط، بناء على اقتراح اسبانيا، في العاشر من الشهر المقبل. سيعتمد الاوروبيون في هذا المؤتمر سياسة"العصا والجزرة"لضمان موافقة الاطراف المعنية على خطة مكافحة الهجرة السرية من افريقيا الى جزر الكناري والتي تتضمن اجراءات تنموية وتعاوناً امنياً. وتراهن اوروبا على نجاح المؤتمر رغم معارضة الجزائر، ربما بسبب الغيرة فقط، لأنه يعقد في الرباط لكنها تذرعت بأن الاوروبيين اختاروا الدول المشاركة من دون التشاور مع مجموعة الوحدة الافريقية. فعلى رغم ان العلاقات بين اسبانياوالجزائر ممتازة، إلا أن الرئيس بوتفليقة يشكو من اعطاء فرنساواسبانيا دوراً اولياً في هذه القضايا. ويترك غياب الجزائر ثغرة مهمة قد تعثّر تنفيذ الخطة نظراً الى أهمية هذا البلد بالنسبة الى مرور المهاجرين باتجاه المغرب وليبيا وسبتة ومليلية. ورغم مجهود اسبانيا واستغلالها علاقات الصداقة التي تربطها بالدول المغاربية، وقناعة وزير خارجيتها ميغال انخيل موراتينوس وتوافق المغاربيين معه بأن لا حلول سريعة لظاهرة الهجرة وان الحل يجب ان يوضع في بلد المنشأ عن طريق تمويل المشاريع التنموية وخلق فرص العمل وتوظيف الرجل المناسب في المركز المناسب كي لا تخسر الدول المصدرة للهجرة ادمغتها ورصد المساعدات ومراقبة حسن توزيعها وتقديم الخدمات والاستشارت التقنية للدول الافريقية للقضاء على الفقر كي تتمكن من استغلال طاقاتها و مواردها الغنية، إلا أن الحكومة الالمانية انتقدت سياسة الهجرة الاسبانية وقالت انها اصبحت بمثابة"دعاية للمافيات". الاوروبيون يعون ايجابيات الهجرة واهميتها بالنسبة لدولهم، ويعرفون ان الذين يخاطرون بحياتهم لا يفعلون ذلك بملء ارادتهم بل مدفوعين بعامل الحاجة. فاسبانيا اصبحت 44 مليون نسمة بعدما كانت اقل من اربعين مليوناً، وبفضل المهاجرين ارتفعت نسبة الولادات الى اعلى مستوياتها منذ العام 1993 وستبلغ المترتبات التي يدفعونها لصندوق الضمان الاجتماعي نحو 1350 مليون يورو هذه السنة، وبعض المقاطعات يسكنه مهاجرون من 89 جنسية مختلفة، وكبرى الشركات تطالب باليد العاملة لخلق فرص عمل وزيادة الانتاج وتعتبر ان العولمة تفرض رسم خطة صحيحة للمساعدة على الاندماج لأن غنى الشعوب في تعدديتها وخليطها. في هذه الاثناء برزت ظاهرة الارهاب التي لم ترتبط يوماً بالحالة الاجتماعية والمعيشية التي تعاني منها شعوب افريقيا وغيرها من الدول"الغنية تحت الارض والفقيرة فوقها". كما برزت ايضاً ظاهرة التطرف الديني التي ارتبطت خيوط بعضها بالارهاب من دون ان يتمكن"اصحاب المخططات الارهابية"عن عقيدة او بهدف النيل من ديانة محترمة، من ربط هذه الخيوط بالفقر والمجاعة والهجرة بل استطاعت ان تنشر التطرف في جانبه الديني لا الارهابي في محيط بعض الجهلة. اي ان مفهوم الارهاب كما التطرف بقي بعيداً الى حد ما عن"قدسية الهجرة والبحث عن حياة افضل"لكن هذا لا يعني انه سيبقى كذلك.