"في داخل مخيّ يتجول، كما في شقته، قط جميل، عذب وفاتن. قط بالكاد تسمع له صوتاً حين يموء"إنه روح المكان الأليفة، يحكم، يترأس، يلهم كل الأمور في مملكته، هل تراه الجن أم تراه السيد الكلي الحضور؟". هذان البيتان مأخوذان هنا من قصيدة شهيرة لبودلير. غير ان مناسبة العودة اليهما تتعلق بالرسام الفرنسي بالتوس، أكثر مما تتعلق بالشاعر الرجيم، الذي رأى في القط كل ما يحدثنا عنه هنا. والحقيقة أن ما من كتاب صدر عن بالتوس، قديماً وحديثاً، إلا وأتى على ذكر قصيدة بودلير مركزاً على هذين البيتين، ماراً في طريقه على بقية أبيات القصيدة ككل. ذلك ان العلاقة بين بالتوس والقطط، في الفن وفي الحياة، كانت دائماً علاقة تفقأ العين. بل ان واحداً من الذين كتبوا سيرة لبالتوس بعد رحيل هذا الأخير قبل سنوات كتب في واحد من فصول كتابه، ان بالتوس، حين أقيم معرض استرجاعي لأعماله في العام 1967، طلب منه مديرو متحف تايت الإنكليزي، منظم المعرض، أن يقترح فقرة تستخدم كسيرة ذاتية قصيرة له، قال بالتوس:"ان أفضل طريقة للبدء في هذا، هي أن تقول: بالتوس رسام لا تعرف عنه شيئاً. والآن، تعالوا ننظر الى لوحاته". والباحث بعدما أورد هذه الحكاية أورد من عنده تعليقاً إضافياً يقول فيه:"لقد كان في امكان بالتوس بدلاً مما قاله، أن يقترح على متحف تايت الرجوع الى هذين البيتين لبودلير، لأنهما في حال الحديث عن سيرة الرسام، أكثر فصاحة بكثير من أي سيرة عادية تكتب للمناسبة". قد يكون هذا الباحث مغالياً في قوله، غير انه سرعان ما يفسر كلامه قائلاً اننا اذا نظرنا الى لوحات بالتوس، بالطريقة التي يقترحها هذا الأخير، سيظهر لنا بكل وضوح ان عائلة بالتوس الحقيقية هي القطط. ويورد الباحث، كمثال يؤكد قوله هذا، اسم لوحتين لبالتوس:"ملك القطط"التي رسمت في العام 1935، وپ"قط البحر الأبيض المتوسط"التي رسمت في العام 1949. طبعاً ان مقارنة بين اللوحتين ستظهر بسرعة انتماء كل منهما الى أسلوب خاص بها، يظهر فوراً على سطح المراقبة: اللوحة الأولى شديدة الواقعية، أما اللوحة الثانية فتنتمي الى جو شديد الغرائبية. بيد أن علينا أن نستنتج من هذه المقارنة أن فن بالتوس قد تطور بين المرحلتين، من النسغ الواقعي، الى النسغ الغرائبي. ففن بالتوس لم يسر في هذا الاتجاه، بل ظل دائماً على حاله. كل ما في الأمر أن علاقته الخاصة مع القط تطورت بين المرحلة الأولى والثانية. أو لنقل بالأحرى: مع الألفة العائلية بينه وبين القط. وبالتوس يوفر علينا هنا مشقة البحث، في تاريخه الخاص، للعثور على جذور هذه الألفة إذ يفترض الباحثون في سيرته أنه كان يميل باكراً الى ان ينصح مشاهدي لوحاته، كما فعل بالنسبة الى المعروض منها في متحف تايت، بأن يبدأوا جولتهم بلوحته"ملك القطط"قائلاً:"ابدأوا بهذه اللوحة ثم اقرأوا المقدمة التي كتبها راينر ماريا ريلكه - الشاعر الألماني الكبير -، صديق أمي وصديقي في صباي، والذي كتب بصدد حديثه عن أول رسوم نشرتها، كانت كلها نوعاً من التكريم لقطِّي الذي اختفى في ذلك الحين، وعددها 40 رسمة:"منذا الذي يعرف القطط حقاً؟ هل يمكن لكم أن تقولوا إنكم تعرفونها؟ أما أنا فأعترف بأن وجود القطط كان دائماً بالنسبة إليّ فرضية ثمة مجازفة كبرى في التأكيد عليها... ترى أوليس على الحيوانات، كي تنتمي الى عالمنا، أن تتوغل فيه بعض الشيء، إن عليها، ولو بنزر يسير، أن تخضع لنمط عيشنا, ان تتساهل معه، وإلا فإنها ستمضي وقتها وهي تقيس، نصف معادية نصف خائفة، تلك المسافة التي تفصلها عنها. وستكون تلك هي طريقتها في إقامة العلاقة مع الإنسان. ترى هل كان الإنسان معاصراً لها في أي لحظة من اللحظات؟ انني أشكك في هذا. فقط أؤكد لكم انه يحدث في بعض الأحيان أن يقفز قط جاري عند الغسق، عبر جسدي، أما متجاهلاً إياي تماماً، أو كي يبرهن على أنني غير موجود". في الحقيقة ان بالتوس تبنى دائماً هذا النص الذي كتبه ريلكه انطلاقاً من علاقته هو الشخصية بالقطط. وهو ما تحدث مرة عن لوحته"ملك القطط"إلا ومرّ في حديثه، من ناحية على نص ريلكه ومن ناحية ثانية على قصيدة بودلير، وكأن النص والقصيدة يشكلان جزءاً أساسياً من اللوحة أو يبرران وجودها على الأقل. ومع هذا فإن اللوحة"بورتريه ذاتية"يصور فيها بالتوس نفسه في وقفة مسرحية، تنتمي الى البعد المسرحي الذي دائماً طغى على لوحاته الأساسية. غير ان من الواضح ان مسرحية وقفته تظل متواضعة مقارنة بمسرحية تعبير القط الواقف الى جانبه في اللوحة. فإذا كان هو يقف متأملاً غير متنبه تماماً الى العيون التي تراقب، أو اليد التي ترسم المشهد، فإن القط يغوص كلياً في المشاهدين، وبالتالي في الرسام، من خلال نظرته المجابهة، المليئة بكل أنواع التفهم والتحدي في وقت واحد. القط هو النجم في اللوحة. ومن هنا لم يفت بالتوس أن يؤكد على هذا من خلال كتابة تشغل حيزاً على اللوحة وتوجد فوق سطح أبيض هو قماش للرسم بالأحرى يبدو كشاهدة قبر وقد كتب عليه بالإنكليزية"بورتريه لصاحب الجلالة ملك القطط، رسمه هو بنفسه في العام 1935". ومن الواضح هنا أن ثمة مزجاً منطقياً بين القط والإنسان، بين بالتوس الشاب وقطه"ميتسو"الذي يقف الى جانبه كندٍ له في اللوحة. ولقد كان الناقد والأديب الفرنسي كلود روا، على صواب حين كتب، تحديداً، في صدد هذه اللوحة يقول مستذكراً القطط وعلاقة بالتوس بها:"ان القطط الصغيرة لا تذهب الى المدرسة: ذلك ان والديها يعلمانها الأمور الأساسية، كيف تصطاد، كيف تفكر، تركض وتسحب نفسها في ساعة الخطر. ان والد القط الصغير بالتوس، والذي كان هو الآخر رساماً ومؤرخاً للفن، ووالدته، التي كانت أيضاً رسامة، وأصدقاء العائلة، كانوا هم الذي سيعلمون القط الصغير بالتوس، كل شيء. فالقطط تتعلم من تلقائها، بنفسها. لا تدخل مدارس الفنون الجميلة. تتعلم، ترصد، تجرِّب وتدرس وحدها". بيد ان أصدقاء عائلة بالتوس الذين يتحدث عنهم كلود روا هنا ليسوا نكرات، بل هم يحملون أسماء كبيرة: فإلى ريلكه، كان هنا ديران وبونار. ولقد كان ديران هو الذي مارس التأثير الأكبر في بالتوس حين تلفظ ذات يوم، بالعبارة السحرية - بحسب ما يروي لنا كلود روا - العبارة التي يقول فيها:"نحن لا نرسم اليوم إلا كي نعثر على الأسرار الضائعة". ولعل لوحة"ملك القطط"خير نموذج على أن بالتوس حفظ هذا الدرس. ففي اللوحة تعبير عن البحث الدائم، والذي لا يجب أن يتوصل الى أي نتيجة أبداً، عن السر الضائع: سر ملك القطط، المزدوج في اللوحة، كون"الملك"هو في الوقت نفسه موضوع اللوحة وذاتها، رسامها ومرسومها، قطها وانسانها. ولعل هذا ما يعطي هذه اللوحة غموضاً خفياً، لا يبرز إلا من خلال التمعن فيها، ويقربها من عالم مسرح القسوة الذي كان بالتوس أحد أنصاره، الى درجة أن بين لوحاته الكثيرة التي رسمها طوال عقود من الزمان أعمالاً كثيرة تبدو وكأنها، في أبعادها الاستعراضية أو الإيروسية أو الذاتية، تعبير عن مسرح القسوة هذا. وبالتوس 1908 - 2001 - الاسم المستعار لميشال كلوسوفسكي دي رولا، رسم طوال ما يقرب من ثمانية عقود من السنين، أي منذ تفتح وعيه في مهده الباريسي على بيئة ثقافية وفنية محيطة بأسرته وخصوصاً بأمه التي كانت ذات جمال أخاذ، وحتى رحيله في بداية القرن الجديد. وبالتوس رغم فرنسيته هو من أصل ألماني... ما اضطر عائلته الى العودة الى ألمانيا حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، لكن جزءاً من الأسرة عاد وأقام في سويسرا، بينه بالتوس نفسه. وهو منذ ذلك الحين انصرف الى الفن والأدب والى الرسم خصوصاً، وحقق ديكورات وملابس للمسرح والأوبرا، وصار جزءاً أساسياً من الحياة الفنية الفرنسية والسويسرية طوال القرن العشرين كله.