يعتقد الإسرائيليون، ما عدا استثناءات نادرة، أنه إذا ما تعين القبول ب"حماس"ك"شريكة للسلام"، فعليها قبل ذلك أن تعترف باسرائيل، بما أن إسرائيل قبلت، منذ أمد بعيد، بحق الفلسطينيين في دولة خاصة بهم في الضفة الغربية وغزة. إلا أن هذا غير صحيح. ولكن أن يصدّق هذه الكذبة صحافي واسع الإطلاع مثل سيفر بلوتزكر، فهو أمر يشير إلى مدى سيطرتها على الخيال الإسرائيلي. وفي مقالة نشرها أخيراً في صحيفة"هآرتس"، كتب بلوتزكر أن ما وجّه الإسرائيليين منذ اتفاقيات أوسلو هو افتراضهم الأساسي بعدم قيام"جدل"حول حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية وحق الفلسطينيين في الوجود كدولة فلسطينية، فيما قد يحدث جدل مع الشعب الفلسطيني حول الحدود والقدس. ووفقاً لبلوتزكر، فقد"اهتز تماماً"هذا الافتراض الأساسي بفوز"حماس". يبدو أنه لم يخطر لبلوتزكر أن"الجدل"حول الحدود والقدس ليس ممارسة كلامية بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين رأوا الأرض تُسحب من تحت أقدامهم، بالمعنى الحرفي للتعبير، إذ راح شارون، بأحاديته، يضم إلى إسرائيل أجزاء واسعة مما كان يُفترض أن يشكل دولة فلسطين. في الواقع، لا تدعو"حماس"إلى قيام مملكة أو خلافة إسلامية، بل هذا برنامج تنظيم"القاعدة"الذي ميزت"حماس"نفسها عنه صراحة. لقد وسعت إسرائيل حدودها بما يتجاوز نسبة 50 في المئة من المناطق التي حددتها لها منظمة الأممالمتحدة سنة 1947، فيما تقلصت الأراضي المحددة للفلسطينيين بما يقارب 60 في المئة - وكل هذا قبل أن نأخذ في الاعتبار أياً من المستوطنات والأراضي التي صادرتها إسرائيل في الضفة الغربية. إذا أعلنت"حماس"قبولها بمشروعية إسرائيل، ولكن فقط على نصف الأراضي التي شكلت الدولة اليهودية قبل حرب 1967، فلن يعتبر أحد في إسرائيل هذا الاعلان اعترافاً جدياً بحق إسرائيل في الوجود. ولكن هذا بالتحديد ما اعتبره الإسرائيليون إعلاناً مقبولاً من حكومتهم بالذات بالنسبة إلى مشروعية دولة فلسطينية. الإعلان المطلوب يجبر الفلسطينيين على الاعتراف ليس فقط بنصف، بل بكل أراضي إسرائيل ما قبل 1967 وأكثر من ذلك بكثير. ولهذا السبب، قال إسماعيل هنية إن الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل سيتوقف على"أي إسرائيل"تطلب هذا الاعتراف. هل هي إسرائيل بحدود ما قبل 1967، أم أنها إسرائيل التي استولت على أكثر من نصف أراضي الفلسطينيين المتبقية؟ إن كانت الأخيرة، فلن تعترف"حماس"بإسرائيل. وأضاف أنه، إلى أن يُقال للفلسطينيين أيّ من هذين الكيانين الإسرائيليين يطالب بالاعتراف الفلسطيني، فلا يُعتبر ذلك طلباً يستوجب رداً من الفلسطينيين. ما هو غير المنطقي في موقف كهذا؟ ما هو أساس انتقاد إسرائيل والولاياتالمتحدة لسياسة"حماس"هذه، بينما هي الصورة المطابقة للسياسة التي تنتهجها إسرائيل حيال دولة فلسطينية؟ إن طرح هذه الأسئلة يتصدى لتحديد المبدأ المحوري المنظّم لحكومة تقودها"حماس"، وهو ليس إزالة الدولة اليهودية، الأمر الذي قال عنه سابقاً الكثير من قادة"حماس"إنه ليس مبدأ تلتزم به الحركة، وهو في كل الأحوال أمر يتجاوز قدرة حماس، بل هو مطالبة اسرائيل بمعاملة بالمثل لا تقبل المساومة. المطالبة بالمعاملة بالمثل هي أيضاً جواب"حماس"على الشرطين الآخرين اللذين وضعتهما إسرائيل للتعامل مع سلطة فلسطينية بقيادة الحركة: قبول كل الاتفاقات السابقة ونبذ العنف. ولكن الإسرائيليين لا يظنون حقا أن"حماس"غير مدركة أن إسرائيل لم تقبل باتفاقاتها السابقة مع الفلسطينيين. كان شارون، كلما تكلم عن قبول إسرائيل المزعوم ب"خريطة الطريق"مع الرئيس بوش وغيره من الرؤساء، يضيف تعبير"كما قبلتها الحكومة الإسرائيلية"، التي أضافت لدى"قبولها"خريطة الطريق أربعة عشر شرطاً أفرغتها من بنودها الأساسية. على سبيل المثال، تفرض خريطة الطريق صراحة أن يقوم الطرفان بتنفيذ الواجبات المترتبة على كل منهما بغض النظر عما ينفذه الطرف الآخر - بالنسبة إلى إسرائيل: وقف بناء المستوطنات وإزالة النقاط الحدودية غير الشرعية، وبالنسبة إلى السلطة الفلسطينية: إنهاء الإرهاب. أعلنت حكومة إسرائيل أنها لن تنفذ أياً من واجباتها قبل أن ينهي الفلسطينيون كل أعمال العنف والتحريض ضد إسرائيل وأن"يفككوا البنية التحتية للإرهاب." ليس الاتحاد الأوروبي وحده، بل الحكومة الأميركية أيضاً على علم بأن مصادرة إسرائيل لمساحات كبيرة في الضفة الغربية تنتهك القانون الدولي و"خريطة الطريق"وقرارات الأممالمتحدة. أما بالنسبة إلى قضية العنف، فقد عرضت"حماس"عن"تهدئة"طويلة الامد منذ حوالي سنة، والتزمت بها إلى حد بعيد، على الرغم من عودة إسرائيل إلى الاغتيالات المحددة الأهداف، وهي تنتظر الرد الإسرائيلي. وسواء حلّت"حماس"جناحها العسكري،"كتائب عز الدين القسام"، أم لم تحلّه، فمن المحتمل جداً أن تكون الجهة المسؤولة عن الحكم وعن مصالح الشعب الفلسطيني كياناً مختلفاً جداً عن الحركة التي كانت سابقاً في المعارضة. والحقيقة أنه إذا اعترفت"حماس"غدا بدولة إسرائيل وحلت"بنيتها التحتية الإرهابية"، فلا يوجد احتمال لمتابعة عملية السلام من دون ضغط كبير تمارسه الولاياتالمتحدة على إسرائيل، واحتمال حدوث مثل هذا الضغط الأميركي ضعيف. فقد تمادت إسرائيل كثيرا في قراراتها الأحادية كي تعود مجدداً للمشاركة في عملية سلام تتطلب موافقة الفلسطينيين على أي استمرار للوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية. ولن توافق"حماس"على أي عملية سلام تتخلى عن مبدأ الموافقة الفلسطينية التي أقرتها الإتفاقات السابقة وأعاد التأكيد عليها الرئيس الأميركي والمجلس الأوروبي. لكن، وللمفارقة، فقد تكون احتمالات قيام تسوية موقتة، قد زادت بدل أن تتراجع نتيجة فوز"حماس"في الانتخابات. ف"حماس"والحكومة الإسرائيلية تعتقدان أن مصالحهما العليا تُحفظ بأفضل شكل، ليس بعودة سريعة إلى عملية السلام، بل بمرحلة مديدة من تعايش لا يتم الكلام عنه ولا الاعتراف به. فالاستراحة من الضغوط لمتابعة عملية السلام ستسمح لإسرائيل بمتابعة هدفها المعلن وهو تنفيذ المزيد من الانسحابات الأحادية الجانب من بعض مناطق الضفة الغربية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، فتضمن بذلك أغلبية سكانية يهودية في الجانب الإسرائيلي من الحدود. أما بالنسبة إلى"حماس"، فسيفسح لها المزيد من الانسحابات الإسرائيلية المجال الذي تحتاج إليه لمتابعة بناء المؤسسات الفلسطينية وإعادة تأهيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي. وفي ما يخص الإسرائيليين، فسيكون وقف إطلاق النار المديد متناسقاً مع رغبة حكومتهم في أن تسبق مفاوضات الوضع النهائي ترتيبات انتقالية طويلة الأمد. وفي ما يتعلق ب"حماس"، سيكون وقف إطلاق النار متناسقاً مع موقفها القائل إنها غير مستعدة، في هذه المرحلة، لأن تقدم لإسرائيل أكثر من هدنة طويلة الأمد. في حال ثبتت مثل هذه التسوية غير الرسمية، فقد تؤدي مع الوقت إلى اتفاقات يتم التفاوض بشأنها ثنائياً والاعتراف بها بشكل أوسع، وربما حتى إلى معاهدة سلام، ولكن فقط إذا التزم الطرفان بمجموعة من الشروط. فيجب على"حماس"أن تعزز الهدنة التي قدمتها وأن تمنع العمليات، ليس تلك التي يقوم بها مجاهدوها وحسب، بل أيضاً حركة"الجهاد الإسلامي"و"كتائب شهداء الأقصى"وسواها. ولكن، وحتى تستطيع"حماس"لجم هذه العمليات، فيجب أن توقف إسرائيل اغتيالاتها وغاراتها على المناطق الفلسطينية. بل والأهم من ذلك، ينبغي على إسرائيل أن تعلن على الملأ أن الخطوط التي تتراجع إليها نتيجة انسحاباتها الأحادية لا تشكل الحدود النهائية التي يجب أن تُحدد فقط بنتيجة المفاوضات مع الفلسطينيين. كما على إسرائيل التوقف عن توسيع وجودها في الضفة الغربية والذي يهدف إلى ضمان استحالة التراجع عن خطوطها"الموقتة". إن تسوية كهذه تترك الباب مشرعاً أمام حل للصراع يتخذ صفة أكثر رسمية بعد بضع سنوات، ليست ممكنة إلا في ظل سلطة فلسطينية بقيادة"حماس". لأن"حماس"تستطيع أن تبرر قبولها مرحلة انتقالية كونها تتوافق مع رفضها الإيديولوجي تقديم تنازلات رسمية لإسرائيل لا تستند إلى الاعتراف الإسرائيلي بالحقوق الفلسطينية. وخلال المرحلة الانتقالية، تتمكن"حماس"من التركيز على إصلاح المؤسسات الفلسطينية. فلطالما شددت"حماس"، وإصلاحيون فلسطينيون غير إسلاميين أيضاً، على أن حكماً فلسطينياً نزيهاً وفعّالاً هو شرط مسبق لتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية. قد يتضح أن توقعات اعتدال"حماس"كانت خاطئة. ولكن التصريحات الأخيرة التي أدلى بها العديد من قياديي"حماس"حول أولوياتهم الجديدة تشير بقوة إلى أن طريقة تفكيرهم بدأت تتغير. فعلى سبيل المثال، صرح الدكتور ناصر الدين الشاعر، نائب رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية، أن"الحكومة الجديدة لا ترفض التنسيق والتعاون مع أي كان، بما في ذلك إسرائيل، من أجل حل المشاكل الروتينية". لكن مسارعة حكومة إسرائيل إلى دفع حكومة"حماس"إلى السقوط تضعف إمكانية اكتشاف الحقيقة، كما أنها تهدد بالقضاء على احتمالات الاعتدال التي قد تتواجد لدى"حماس". لقد حذر الجنرال الإسرائيلي شلومو بروم، الذي كان حتى وقت قريب نائب مستشار الأمن القومي للتخطيط الاستراتيجي في الجيش، من أنه إذا فشلت حكومة"حماس"بسبب سياسة العزل من جانب اسرائيل، فلن يُنسب الفشل والضيق اللذان سيعاني منهما الشعب الفلسطيني إلى"حماس"بل إلى إسرائيل وإلى الغرب. وقد يؤدي ذلك على الأغلب إلى توسيع الهوة بين الولاياتالمتحدةوالفلسطينيين والعالم الإسلامي. ومن جهة أخرى، قد تشجع سياسة إسرائيلية وغربية قوامها التعامل والتفاوض مع"حماس"على إحداث تغييرات أساسية في سياسات هذه الحركة، وربما في إيديولوجيتها. وإحدى أكبر حسنات اعتماد سياسة التعامل مع"حماس"بدل عزلها تتمثل في قدرة إسرائيل مستقبلياً على الانتقال إلى سياسة المواجهة إذا اتضح أن التعامل قد فشل. وقد يكلّف الفشل نهاية الحلم بحل للنزاع يقضي بقيام دولتين، مع كل ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى مستقبل الدولة اليهودية التي تقع في منطقة ربما كان"صدام الحضارات"قد بدأ فيها. * مدير مشروع اميركا - الشرق الاوسط في مجلس العلاقات الخارجية - نيويورك