في رواية صموئيل شمعون"عراقي في باريس"2005 التي هي سيرة ذاتية روائية، تبدو صورة الأب مختلفة عنها في أكثر من رواية عربية. يتمثل هذا الاختلاف، وفي شكل أساس، في العلاقة المتبادلة بين الأب وابنه. فهي، في هذه الرواية، وعلى نحو ملحوظ، علاقة مشاركة وتعاطف بعيدة من العنف الذي وسم صورة الأب والموقف منه في معظم الروايات العربية التي حكت عن هذه الرواية. أب، كما يخبرنا الابن، عطوف وحنون... يقول لابنه"نحن صديقان"، ويضمه الى صدره كما تفعل الأمهات عادة مع أطفالها. وهو إضافة الى ذلك، يحرص على أن يكون عند ابنه"وقت للعب مثل بقية الأولاد"ص 248، كما يشاركه، بل ويحمِّسه على ممارسة هوايته"صنع السينما"، أو عمل الصور المتحركة. في رواية"الخندق الغميق"لسهيل إدريس، نجد موقفاً مختلفاً نقيضاً. فالأب الذي يلاحظ استغراق ابنه في القراءة والكتابة، أي في هوايته، يوجِّه له اللوم قائلاً:"أرى أنك لا تزال تشغل رأسك بتلك التفاهة، وقد آن لك أن تعود الى الرشاد"ص 92. وعندما يرجو الابن أباه أن يتركه وشأنه، تتسع حدقتا الأب ويهز كتف ابنه معنّفاً، ويقول:"أتقصد أن هذا لا يعنيني؟ تكلم!..."ص 92. كيف نقرأ هذا الاختلاف بين أب يشجع ابنه على هوايته ويدفعه الى ترك وطنه وبالتالي أبيه وأهله، وبين أب يعارض ابنه ويرى في هوايته التي هي القراءة والكتابة تفاهة، معبِّراً بذلك عن امتلاك وتسلُّط يمارسهما هذا الأب تجاه ابنه، وعن عداء لثقافة وجهل بقيمها. لئن كان البعض من الباحثين والنقاد يميل الى قراءة صورة الأب، على تنوعها واختلافها في الرواية العربية، بمنهاج التحليل النفسي الفرويدي شأن الباحث جورج طرابيشي على سبيل المثال، فإنني، ومن دون التعرض بالنقد لمثل هذه القراءة، أميل الى قراءة مثل هذا الاختلاف باعتباره اختلافاً قوامه الواقع الثقافي في تاريخيته، كما موقع المؤلف ورؤيته وما لذلك من أثر يتمثل في منظور العمل الروائي وعالمه. ففي رواية ليلى بعلبكي"أنا أحيا"الصادرة في الفترة الزمنية نفسها التي صدرت فيها رواية سهيل إدريس"الخندق الغميق"، فترة استقلال لبنان وتحرره الوطني في العقد الخامس من القرن العشرين، نرى هذه الصورة نفسها للأب المتسلِّط، لكن مع فارق مهم يعود، كما يبدو لي، الى موقع المؤلفة الأنثوي، ومفهومها للتحرر الوطني. تحيل سلطة الأب في رواية إدريس على ثقافة دينية يمثلها الشيخ ويعمل وفقها الأب وتبسط مناخها في البيت ومحيطه. في حين تحيل سلطة الأب في رواية بعلبكي على طبقة بورجوازية - رأسمالية، كما على أكثر من مؤسسة من مؤسسات المجتمع التي تمارس سلطتها الذكورية، وتعوق تحرر المجتمع الذي يشكِّل تحرر المرأة فيه عاملاً أساسياً. فلينا فياض، بطلة رواية"أنا أحيا"، تواجه أكثر من سلطة في الواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه. هذه السلطات هي: سلطة الجامعة ونظامها التعليمي وسلطة الأستاذ - الذكر فيها. سلطة مدير المؤسسة التي تعمل فيها لينا. سلطة الحزب المجيَّرة الى الشاب الذي تحبُّه لينا... إضافة الى سلطة والدها باعتباره لا الأب فقط، بل أيضاً، وبحسب منظور الرواية ومعناها العميق، التاجر الذي يفرِّط بوطنيته وعروبته حرصاً على الربح والمال. ومع هذا نجد أن ما هو مشترك بين الروايتين هو الخلفية الثقافية. ثقافة إرادة الفرد وتحرره. هذه الثقافة الوافدة آنذاك الى لبنان عبر ترجمات كتب سارتر. يتمرَّد الابن في رواية"الخندق الغميق"على أبيه، وتتمرد لينا على أبيها من منظور روائي يقول بحق الفرد في ممارسة إرادته وحريته. "أنا أحيا" أن تكون بطلة رواية"أنا أحيا"أنثى لم يكن ليعني، وفي شكل حصري، ضدية بين الأنوثة والذكورة، بقدر ما عنى وعياً لدى المؤلِّفة يربط بين تحرر المرأة ونهوض المجتمع. كأن ليلى بعلبكي استمرار نوعي لمرحلة سابقة أكدت تعليم المرأة وتحررها في أكثر من كتاب ومحاضرة وسمت مرحلة النهضة. كُتب المعلم بطرس البستاني وقاسم أمين وزينب فواز، وملك حفني ناصف.... فكان ظهور النوع الروائي بمثابة تجسيد تخييلي لصورة الاضطهاد، وخلق إبداعي لشخوصه في ما يمارسونه من سلوكات وما ينطقون به من كلام. وعليه يبرز السؤال: هل الأبوة ذكورة هي في طبيعتها عنف وتسلط: في"حبات النفتالين"لعالية ممدوح، ومع وصول الرواية الى نهاياتها، تقول الراوية، الابنة هدى عانية أباها:"... يطوّقني بذراعيه، تهطل دموعي، يبكي أبي. يترك يديه عنا ويرفعهما الى رأسه، يغطي وجهه، صوت نحيبه يعلو ويتعلَّق في هواء الغرفة"ص 165. يتخلى هذا الأب الضابط، المسؤول عن السجن، عن استبداده الذي عبّرت عنه الرواية على مدى صفحاتها الأولى. يبكي هذا الأب ندماً بعد أن أدرك انه كان السبب في موت زوجته إقبال... وبعدما جاء اليه ولداه يجرجران مأساتهما، ويسعيان للدخول في حضنه كأنما يعوِّضان به حضن أمهما المفقود. " تغير أبي"تقول الراوية،"داهمنا ونحن نراه يتغير، تأخر علينا، فحضرنا في منتصف الطريق"ص 166. تعود الأبوة الى طبيعتها في منتصف الطريق، بعد زمن من العنف والاستبداد حوّل البيت، بحسب رواية ممدوح، الى خراب. يتغير الأب. انه منظور الرواية، أو الراوية الأنثى التي تأبى إلا أن تشبه السماء،"وجه أبي"وينبعث فيه وجه من حنان أنوثتها. كأن العنف الذي يمارسه الأب ليس طبيعة ذكورية فيه، بل سلوك مرهون بزمن، بموقع في التراتب الاجتماعي السياسي والقيمي. وهو بذلك اكتساب تلازم، تاريخياً مع الذكورة من دون أن يكون بالضرورة من طبيعتها كما ذهبت الى ذلك هدى بركات في روايتها"حجر الضحك": تربط هدى بركات بين عنف الحرب اللبنانية - اللبنانية، أو الاقتتال الأهلي وما جرّه ذلك من خراب ودمار وضحايا، وبين الذكورة المجتمعية التي انتهى اليها خليل. يتخلى خليل عن الأنوثة التي فيه، والتي هي نزوع الى السلام. أنوثة اعتبرها المجتمع الذكوري المتقاتل، غير طبيعية في خليل. تُماهي الرواية بين الذكورة والعنف في مجتمع يرفض الطبيعي في الرجل، أي هذا التكوُّن الجيني الذي هو فيه ذكورة وأنوثة. كذلك تُماهي حنان الشيخ في روايتها"حكاية زهرة"بين العنف الأبوي باعتباره سلطة ذكورية قرينها القناص، وبين الدمار الذي يصيب جسدها الأنثوي كما أصاب جسد المدينة. وبالعودة الى رواية"عراقي في باريس"التي تقدم لنا صورة للأب مختلفة - الأب المتعاطف، الذي يلهو مع ابنه مثل طفل - يستوقفنا ان هذا الأب أصم أبكم. ما يعني أنه لا يتواصل مع المجتمع الذي يعيش فيه بلغة هذا المجتمع، وأن ما يجري بينه وبين ابنه من حوار وتفاهم، إنما يجري وفق شفرة من الإشارات هي لغة أخرى، مختلفة، يفسرها لنا الابن الذي يحكي عن أبيه، باللغة التي نعرف ونفهم. كأن ما يرويه الابن عن أبيه هو قراءة وكتابة للغة مستعارة لا تمارس سلطة معكوسة، من الابن على أبيه. لغة مستعارة فيها مرارة وسخرية من الحياة بهما تسقط الحدود بين الأب وابنه. كأن المعاناة التي هي واحدة، هي لغة لواحد يعيش الفقر والتشرد ويحلم بمستقبل عصيّ على التحقيق: ابن يحلم بأن يكون مخرجاً سينمائياً، وأب مهووس بصندوق السينما، ومؤلّف يريد أن يكتب كتاباً عن أبيه، ثم يكتشف أنه كان يكتب عن نفسه كمواطن عراقي مشرَّد عن وطنه. أصم أبكم هذا الأب في رواية"عراقي في باريس"، ويعبِّر بلغة تشكِّل حاجزاً يحول دون أن تكون له صورة الأب السلطوي أو الذكر الفحل، شأن الصورة السائدة في المجتمع. كأن ما هو فيه من انقطاع عن المجتمع ولغته، خوّله أن يكون أبوّته، أو هذه الأبوة التي هي، في الآن نفسه، حلم يتجسد في ما يهواه الابن ويرغب فيه:"صنع السينما"، أي صنع عالم متخيل يختلف عن عالم الواقع ويتحقق فيه إمكان اللهو والمرح. كما الإعاقة في رواية صموئيل شمعون، تفضي الفجيعة في رواية الياس خوري"الوجوه البيضاء"1981 الى الأبوة الحقة: يفقد خليل أحمد جابر ابنه، ويقدّم لنا المتخيل الروائي صورة لأب يبكي ويحبس نفسه في غرفة. كأنه بذلك ينقطع عن محيطه. وهو شأن الأصم والأبكم في رواية شمعون، يتكلّم لغة مختلفة، لغة تمحو وتطرش باللون الأبيض الصور والجدران والكلام المكتوب على هذه الصور والجدران، تمحو لغة الفجيعة لغة الحرب. والرجل الذكر الذي فقد ابنه لا يعود كما بقية الرجال الذكور، يصير فقط أباً. إنه الفقدان على حده تتظهَّر الصورة لأبوّة الرجل وربما لطبيعته كإنسان. الأب الحنون خارج الإعاقة والفجيعة، لا نعثر في الرواية العربية على هذا الأب الحنون. مفقودة هذه الأبوة الطبيعية، ومنشودة بألم ومرارة: ففي رواية منى جبور"الغربان والمسوح البيضاء"1966 التي هي شبه سيرة ذاتية، تقول البطلة، الأنثى، كوثر، موجهة الكلام لأبيها:"أنا بحاجة للحنان"، ثم"وأظل أبكي يا والدي على صدرك حتى يمتلئ الكون بالرطوبة والدموع"ص 10. تفتقد كوثر الأب على رغم وجوده، وتعبِّر عن حاجتها الى أب حنون يغيب خلف صورة الذكورة. يقترن حضور الأبوة الحانية بضعفها، وتغيب في قناع السلطة فيه قرين الذكورة. أو لنقل بأن الذكورة ليست سلطة وإن كانت للأب، بل هي السلطة وقد لبستها الذكورة طويلاً، مثل قناع تتماهى فيه السلطة والذكورة في وعي سائد، ويسعى بعض المتخيَّل الروائي الى فك الرباط بينهما. لكن هذا الرباط غالباً ما يُفَك على خلفية العجز والقصور أو الفجيعة. وفي المقابل نرى أنه نادراً ما يذهب المتخيل الروائي بهذه السلطة الى رأسها:"الأب"الأعلى. لا يصل المتخيَّل الروائي العربي بهذه السلطة الى هذا"الأب"، الفاعل الأول، المتحكم بوعينا الثقافي الجمعي عبر تاريخ طويل. في روايته"خريف البطريرك"يذهب ماركيز الى رأس السلطة، الديكتاتور، وكذلك يفعل راوو باستوس في روايته"أنا الأعلى". في حين يقف نجيب محفوظ، في روايته"ميرامار"عند مدير المصنع، ويُحمِّل الأخلاق، وليس النظام، مسؤولية ما يجري من فساد وتدهور لهذا المصنع، وبالتالي للوطن. ولكن، حين تجرَّأ نجيب محفوظ في"أولاد حارتنا"على رد حال التردي التي يعيشها الأبناء الفقر والتخلف والصراع الى"الأب"الأعلى، الغيبي، أو الى هذا الوهم الذي تمثل في اللجوء الى السحر والشعوذة على حساب العلم والمعرفة، أي عندما أحال، ومن منظور نقدي، وعي"الأبناء"الجمعي السائد الى أبوَّة إيمانية، غيبية، ترتب عليها بنوة جاهلة، متصارعة، مُنع الكتاب، ثم جرت محاولة اغتيال مؤلفه. وعليه، هل نقرأ صورة الأب في الرواية العربية بمعزل عن مجالها الثقافي، أو المرجعيات التي تحيل عليها دلالات هذه الصورة سواء ما تعلَّق منها بالمنظور الروائي أو بموقف المؤلِّف وموقع الكتابة؟ وهل الأبوة ذكورة وهل الذكورة عنف؟ كيف نقرأ إذاً رواية أحلام مستغانمي"ذاكرة الجسد"التي لصورة الأب فيها معانٍ من الحب والتضحية والنضال تجعلها خارج صورة الأب الذكر وما لازمها من مرادفات العنف والتسلط. وكيف نقرأ أيضاً رواية"المكان"للفرنسية آني إرنو التي عبرت عن تاريخ نهضوي بناه والدها بجهده وعرق جبينه"الذكوري"؟ أعتقد أن العنف ليس ذكورة، وقد بكى آباء كثر واحتضنوا، في أكثر من وقت، أبناءهم... العنف وإن مارسه رجل فهو، تعريفاً، استبدادية النظم، وتسلط الحاكم الذي كان، ذات يوم، أيضاً أنثى. لقد مارست المرأة الإلهة باللاس عنفاً مقصوداً، على أراخني ابنة إيدمون. باللاس الآلهة العذراء الشقراء رفضت أن تكون أراخني متفوقة عليها في صناعة النسيج، فرشّت عليها عصارة عشب مقدس حوّلها الى مثال للتشوه. كذلك قتلت لاتو ابناء نيوبي السبعة بدافع الغيظ والحرص على التفوق. أقول ما أقول وأخشى أن يتحوَّل كلامنا سلطة، كما تحولت الكتابة في بعض الروايات العربية الى سلطة يمارسها الكتاب أو الرواة الأبناء على آبائهم وهم يروون حكاية العلاقة بهم. آباء، هم في مثل هذه الروايات، بلا حضور فعلي، بلا صوت، حاضرون فقط للمذلة والمهانة، أو مجرد وسطاء، وأقنعة لنقد واقع سياسي، أو اجتماعي ثقافي، ليس مثل هذا الأب سوى ضحية من ضحاياه.