قدم الموسيقي اللبناني نداء أبو مراد على مسرح اللوفر في باريس، أول أداء لقطع موسيقية، دونها قبل سبعمئة عام صفي الدين الأرموي البغدادي، المغني في مجلس آخر خليفة عباسي. وأعاد أبو مراد تركيب هذه القطع المتفرقة، معتمداً على النوتات نفسها، وعلى نظريات ذلك العصر وتقاليده الموسيقية التي انتقلت معظم عناصرها شفوياً حتى يومنا. واقترح أبو مراد إعادة قراءة عالمة لهذه المقطوعات القديمة. على هامش الحفلة التي نظمتها"دار ثقافات العالم"، وإصدار اسطوانة مدمجة لموسيقى العصر العباسي ضمن مجموعتها"إينيدت"، التقت"الحياة"نداء أبو مراد أو"المواطن اللبناني الذي يحمل طرابيش عدة"، كما عرف عن نفسه، فهو عازف كمان ومؤلف موسيقي وباحث في علم الموسيقى وطبيب وعميد المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونية، وموسيقي أوروبي، ودار معه هذا الحوار. بين كل هذه"الطرابيش"الموسيقية، كما تسميها، ماذا يفعل الطب؟ وكيف انتقلت إلى عالم الموسيقى؟ - في الحقيقة، درست الطب كي أرضي عائلتي، لكنني وضعت الشهادة في الثلاجة. أما عن علاقتي بعالم الموسيقى، فأنا تخصصت في مطلع الثمانينات بموسيقى الباروك والعصر الوسيط الأوروبي، لكن التحوّل الحقيقي كان في الانتقال من الموسيقى الغربية إلى تلك العربية... انتقلت إلى الموسيقى الشرقية عندما اعترف زملائي بأنهم كانوا يتوقعون أن يأتي أدائي مصقولاً بزخم يستند إلى معرفة معمقة بتقليدي الخاص. كانوا مهتمين جداً بمعرفة التقاليد الموسيقية الشرقية التي تشكل لهم ذاكرة لتقاليد مشتركة في العصر الوسيط بين أوروبا والشرق. هم فقدوا هذه الذاكرة، ولم تبق لديهم إلا من خلال مدونات، لكنها استمرت حية في التقاليد الشرقية. خجلت من نفسي بسبب جهلي للتقليد الموسيقي العربي. كنت مشدوهاً بالموسيقى الأوروبية - كي لا أقول مصاباً بعقدة النقص تجاه الغرب وموسيقاه - ومعتماً عليّ. معتم عليك! ممن وكيف؟ - لم أكن أعرف التقليد الموسيقي العربي، ولم أبحث عنه. ثمة أزمة ثقافية كبيرة في العالم العربي. لدينا كنوز في ثقافتنا، تجاهلناها لشعورنا بالتقهقر العسكري والسياسي والاقتصادي، ومضينا قدماً في عملية التطعيم واقتباس فتات الغرب الثقافي. في بداية القرن العشرين، كنا ننظر إلى وجوب تحديث كل شيء. وبدا كما لو أن باب العقلنة الوحيد هو التغرب عن الذات والتغريب. لكنني، بعد ذلك، اكتشفت أن المشكلة لا تكمن في التعرف الى ثقافات أخرى والنهل منها، بل في سعينا إلى تكريسها على حساب الموسيقى الأصلية. كنت أسهم في ذلك بسبب عدم بحثي عن ينابيع الموسيقى. أيعقل ألا يعرف جيل كامل بوجود التقليد الموسيقي العالم المشرقي، وأن تتركز الموسيقى فقط على الترفيه؟ للأسف، إن 99 في المئة مما يستمع إليه العرب ترفيهي، ونصف في المئة موسيقى حديثة متقنة، وما بقي فقط له علاقة بالتقاليد. ما الذي تقصده بمصطلح"الموسيقى المتقنة"؟ وهل لديك أمثلة؟ - الموسيقى المتقنة تستند إلى شيء من التراث أو التقليد. لكنني لن أذكر أمثلة. لكن القارئ يحتاج إلى رأي باحث حول الموسيقى المتداولة؟ - لا أريد التحدث عن السلبيات أو اختزال الآخرين بالقول إن بعضهم نقض جوهر التقليد وهو الارتجال، أو عزف الغيتار على العود. لم آت إلى باريس كباحث وإنما كعازف ومؤلف، صدرت له أخيراً أسطوانة عن العصر العباسي. لم آت لفتح النار على أحد. حدثنا إذاً عن"التقليد الموسيقي العربي المشرقي العالم"الذي تعمل عليه. - ثمة مفهومان للتقليد: التكراري أي المنسوخ، وهو الفولكلور وما يأتي من التقاليد الشعبية. والإسراري وهو إسرار بأمانة معرفية أو روحية أو صناعية. إنه طقس"المساره"، ومن خلاله ينقل المرشد إلى المريد حالاً تمكنه من إعادة إنتاج هذه الحال... إنه انتقال محتوى وطريقة العبور وهو مسألة عميقة جداً، ولا يمكن التعاطي معه بالخفة التي يتعاطى بها الخطاب العربي السريع، إذ يعمم على التقاليد ما يقال عن العادات. عملي ينصب على التقليد الإسراري العالم المقترن بنظام تنظيري. ماذا أضافت اليك تجربتك في الموسيقى الأوروبية وإقامتك في فرنسا؟ - لدى المتخصصين في الموسيقى القديمة، هاجس البحث عن الأصالة في الأداء، وانصياع وسائلهم إلى القوالب التقليدية لتلك الحقبة. تتم دوزنة الآلات في طريقة تختلف عن دوزنتها في أوروبا اليوم. ولا تعزف النوتة كما هي. أما في العالم العربي، فنحن نريد أن نقلد بيتهوفن كما لو كان هو الحداثة. لكن بيتهوفن انتهى! وهناك قسم كبير يرى الحداثة في تقليد الأوروبيين. لمَ قررت العودة إلى لبنان؟ وما هي الأبحاث التي عملت عليها؟ - عدت بعد انتهاء الحرب وكان ثمة انتعاش ثقافي في التسعينات. شعرت حينها أن العودة واجب لأن إنعاش هذا التقليد الموسيقي يجب أن يتم من بلدي الأم. أسست قسماً لتعليم الموسيقى الفصحى العربية المشرقية، كما أسسنا المعهد العالي للموسيقى في الجامعة الأنطونية. هاجسنا هو تأهيل موسيقيين وعلماء ومربين متخصصين بالتقاليد المشرقية العالمة، والتقليد الموسيقي الديني المسيحي والإسلامي. هل سبق وعمل أحدهم على مدونة صفي الدين الأرموي البغدادي؟ ولماذا اخترت هذا الموسيقي تحديداً؟ - لأنه الوحيد من ذلك العصر الذي تلطف علينا وكتب موسيقاه. دوّن ست قطع في كتاب الأدوار الذي كتبه قبل سقوط بغداد. أما السابعة فدونها قطب الدين الشيرازي. وهذه المرة الأولى التي تقدم فيها هذه المجموعة وتسجل. سبق وقام باحثون بإعادة قراءة هذه المخطوطات. لكن محاولتي المتواضعة كانت ناجحة، فهي ناتجة من تقاطع الخبرة الموسيقية الفعلية والمعرفة بعلم التاريخ الموسيقي لاختيار الأسلم من الاحتمالات الكثيرة، لحل المعادلة، وانتقاء المناسب لقواعد التلحين العربي. ماذا قدم لك العمل على الموسيقى القديمة واكتشافاتها؟ - السؤال الحقيقي هو: ماذا أقدم أنا له؟ فهو يتخطاني. سعيد فقط لأنني قمت بواجب تجاه تقليد رائع. رافق أبو مراد في حفلته الباريسية المغني اللبناني محمد عياش المتمكن من الارتجال على الكمان، هياف ياسين على السيتار ومصطفى سعيد على العود، وعلي وهبي على الرق.