صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    وزير الخارجية يصل إلى فرنسا    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    ا"هيئة الإحصاء": معدل التضخم في المملكة يصل إلى 1.9 % في أكتوبر 2024    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    محترفات التنس عندنا في الرياض!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الحياة" تحاور الفكر العربي : أين نحن في العالم ؟ متى ينتهي الانحدار ؟ أي دور للمثقف ؟ . الطاهر لبيب : الخطاب العربي السائد يعيش مع ثنائيات تقليدية لا يحلها ولا يتخلى عنها
نشر في الحياة يوم 02 - 06 - 2006

أصبح ضرورياً التمييز بين المفكر والمثقف، وهو تمييز يتضح معه أن المفكر يتحدث أقل مما يلزم والمثقف أكثر مما يلزم. وهذا يعني ان الذين ينتجون المعنى هم الاقرب الى الصمت... وان البقية التي لا تكف عن الكلام هي التي تنتج اللامعنى الذي ينسج خطابنا السائد اليوم". قائل هذه العبارات مفكر عربي قليل الكلام، بل حتى قليل الكتابة، لكنه حين يكتب يكتب بكثافة، محاولاً دائماً ان يجمع بين الدقة في استخدام الكلمات ومتعة الاسلوب. هو الدكتور الطاهر لبيب، عالم الاجتماع التونسي المعروف، الذي طرحت عليه"الحياة"اسئلة الواقع العربي والثقافة العربية، بين جملة الاسئلة التي تجرى الحوارات من حولها في هذه السلسلة التي بدأت مع المفكر سمير أمين، والناقد الباحث جورج طرابيشي.
اذاً، بعد الاقتصادي والفلسفي، نصل هنا الى علم الاجتماع، وفي شكل اكثر تحديداً، علم اجتماع الثقافة الذي يطل عبره الطاهر لبيب على عدد من المسائل الفكرية والسياسية، مستعرضاً شؤون"النهضة الثانية"في الفكر العربي، وشجون النكسات والهزائم، معرجاً على مواقف المفكرين والمثقفين العرب من هذه الشؤون والشجون، مفرقاً بين مثقف"يتكلم كثيراً"ومفكر"يشتغل كثيراً".
والطاهر لبيب، على رغم حداثة سنه نسبياً، أطل على الساحة الثقافية والفكرية العربية منذ أوائل سنوات السبعينات من القرن العشرين، حين اصدر كتابه الاول"سوسيولوجيا الغزل العربي"في الفرنسية أولاً ثم في ثلاث ترجمات عربية، بعضها صدر من دون معرفته، في دمشق والرباط والقاهرة. وفي العام 1978 صدر كتاب"سوسيولوجيا الثقافة" في طبعات مختلفة في القاهرة ودمشق وعمان وتونس، كما انه أشرف بعد ذلك على عدد من المؤلفات الجماعية مثل"غرامشي في العالم العربي"في الفرنسية وپ"صورة الآخر: العربي ناظراً ومنظوراً اليه". وهو بين هذه الكتب، نشر في الدوريات وفي كتب جماعية بحوثاً سوسيولوجية يمكن تصنيف اهتماماتها وترتيبها زمنياً كما يأتي: الادب والفن، المثقفون والانتلجنسيا، المجتمع المدني وصورة الآخر.
اضافة الى هذا يشغل لبيب استاذية علم الاجتماع في الجامعة التونسية وهو استاذ زائر في جامعات عربية وأوروبية وأميركية - لاتينية مختلفة. كما انه أسس"الجمعية العربية لعلم الاجتماع"وظل رئيساً لها فترة طويلة من الزمن قبل ان تأخذه مشاغل اخرى، فيصبح رئيس شرف لها.
أما الآن، فهو يقضي معظم وقته في لبنان حيث مقر"المنظمة العربية للترجمة"التي يتولى ادارتها العامة.
الطاهر لبيب، لا نسمع هذه الأيام صوت المفكر العربي، بالتالي تغيب سطوة كانت له على الأقل في اللحظات الحرجة من تاريخ العرب المشترك: آخر أيام العثمانيين، قبيل"انتصارات"حركة التحرر والحصول على الاستقلالات... ثم، خصوصاً بعد هزيمة حزيران يونيو 1967 حيث قامت نهضة ثانية... لماذا هذا الصمت في رأيك؟
- في استعمالك لكلمة"مفكّر"بعض الجواب. من أشرتَ إلى سطوتهم هم مفكرون، كلٌّ في سياق مرحلته وفي ثقافة جيله. ولقد كانوا كذلك لأن فكرهم كان مرتبطاً بمشروع مجتمعي وكان يحمل بدائل، بقطع النظر عن طبيعة هذه البدائل وعن أشكال صياغتها فكريّاً. من إصلاحية القرن التاسع عشر إلى ثورية ستينات القرن العشرين وانتكاساتها، مروراً بمحطات ليبرالية، كان المفكر يبحث عما كان يسمى عضوية المثقف.
هكذا، مثلاً، كانت مرحلة التساؤل عن الهزيمة، أو ما تسميه نهضة ثانية، مرحلةَ المفكر الملحمي الذي صاغ البدائل وناضل من أجلها. امتدادات هذا الفكر تفرّعت، لاحقاً، في نمطين ما زلنا نجد لهما آثاراً ضئيلة في فئات قليلة ومحاصرة فكرياً وسياسياً: نمط بدائلي يواصل أطروحاته ونداءاته، ولكن خارج المشهد الملحمي، ونمط لا أرى له وصفاً آخر غير التراجيدي لأنه يتمسك برؤى ومشاريع يعلم أنها غير قابلة للإنجاز. على أنقاض المرحلة قام مثقف مقاول ليس الفكر أهمَّ عنصر في تعريفه وإنما الخبرة ومردود الاستشارة والتسيير. هذه المقاولة المرتبطة بالورشة الليبرالية الجديدة أتاحت لمثقفيها الجدد فرص الإفتاء في كل شيء تقريباً.
من خلال هذا يمكن تلخيص الإجابة بأنه أصبح ضرورياً التمييز بين المفكر والمثقف، وهو تمييز يتضح معه أن المفكر يتحدث أقل مما يلزم والمثقف أكثر مما يلزم. هذا يعني أن الذين ينتجون المعنى هم الأقرب إلى الصمت وأنّ البقية التي لا تكف عن الكلام هي التي تنتج هذا اللامعنى الذي ينسج خطابنا السائد اليوم. المفكرون يتكلمون قليلاً و"المثقفون"كثيراً. حبذا، إذاً، لو تصمت الغالبية!
من وجهة نظرك كعالم اجتماع، أين اصلاً موقع المفكر العربي اليوم، في وقت نجده في المؤتمرات والفنادق الفخمة والجوائز وضروب الوجاهة، كلنا بالكاد نعثر عليه في الجامعة، ويكاد يغيب تماماً عن التلفزة او العمل الحزبي، بحيث صار يشكل طائفة سرية على حدة؟
- هذه، فعلاً، من تجليات المثقف المقاول. إن إصراره على حضور كل المناسبات، مع الحرص على التمتع بأفضل إجراءاتها، واستعداده لما يسميه تلبية دعوة، قد يتباهى بأنها تأتيه من كل حدب وصوب، والبحث من وراء ذلك عن وجاهة، أي عن إظهار وجهه، كل ذلك يدخل في المقاولة. الحضور في لقاءات فكرية أو علمية هو، بالنسبة للمثقف المقاول،"عزومة"وعلاقات عامة. وبالمناسبة، فإن وسائل الإعلام المرئية بصورة خاصة تركز عليه لا لسرعة استجابته فقط وإنما لخبرته في الخضوع للأسئلة. ولا شك أنك لاحظت بروز طفرة مفاجئة من الخبراء العرب في القانون الدولي والاستراتيجيات والإرهاب والديموقراطيات والحركات الإسلامية والنسائية إلى غير ذلك مما حوّل أشخاصاً قد تعجب كيف تحوّلوا، بين عشية وضحاها، إلى خبراء وأنت تعلم أن معارفهم لم تتغيّر عما كانت عليه قبل أن يصبحوا خبراء. ولا ينبغي أن ننظر إلى هذه الملامح على أنها ملامح كاريكاتورية لأنها ملامح مثقف سائد وله تأثير واسع في مختلف مستويات ومجالات الواقع العربي اليوم. لهذا ليس غريباً أن يبدو المفكر كأنه من طائفة سرية، كما تقول. هذا المفكر له إحساس بأن المرحلة ليست مرحلة فكر. ماذا نتج عن هذا الإحساس؟ باستثناء قلة من البدائليين والتراجيديين تراجع أهل الفكر من الحيّز العام إلى الحيّز الخاص، أي مهنياً إلى الاختصاص وحياتياً إلى البيت. رأى هؤلاء أن في ترك الجلبة لأهلها حفظاً لماء الوجه والفكر معاً.
اذاً، هل كان للمفكر حقاً دور في الماضي، أم انه اخترع لنفسه دوراً لم يوافقه عليه أحد؟
- قطعاً، كان له دور. هذا الدور هو حصيلة ما أسنده إلى نفسه وما أسنده المجتمع إليه أو ما اعترف له به. طبعاً، يختلف الدور بحسب المراحل وكذلك بحسب المجتمعات العربية. هذا مرتبط بنشوء النخب الفكرية والسياسية التي كان معظمها في مراحل التحرر العربي من الاستعمار، من البورجوازية الصغيرة كما كان يقال. وقد تطلب بناء الدولة الوطنية وصياغة مشاريعها أن تواصل هذه النخب أدوارها. كانت هذه الحاجة لوقت قصير لم تعد بعده الدولة ترى أن شرعيتها تحتاج إلى مبايعة فكرية. عندئذ بحث الفكر عن عضوية جديدة في اتجاه الفئات الاجتماعية وكانت لها تسميات كثيرة. إجمالاً، مع أواسط سبعينات القرن الماضي ظهرت مقولات دينية وجد المفكر العربي نفسه ضائعاً بينها وبين أنظمة أصبح يتبادل معها عدم الاعتراف. هذه اللحظة هي في رأيي أكثر اللحظات حرجاً في مسار المفكرين العرب. وهي على كل حال أعلنت بداية تراجع المرجعيات الفكرية والأيديولوجية الكبرى. ما حدث بعد ذلك من إعادة الانتشار، إن صح التعبير، أحدث مشهداً فيه مفاجآت كثيرة من تغيير المبادئ والمواقع وتمَّ فيه، أيضاً، تقليد المثقف المقاول دور البطولة.
البحث عن أثر ما...
ومع هذا تبدو مجتمعاتنا العربية في امس الحاجة الى حماسة وبوصلة، لا يمكن إلا للمفكر ان يحملهما، فكيف يمكن اعادة اللحمة بين المثقف لئلا نقول المفكر والمجتمع، في وقت يشتد فيه ضغط التطرف والفكر الانعزالي التكفيري.
- المشكلة ليست مع المفكر وإنما مع المجتمع الذي تفككت علاقته بالفكر. ارتباط الفكر بالواقع له شروطه الموضوعية وليس موضوعاً للإرادوية أو الاعتباطية. كل منتج للفكر يطمح إلى أن يكون لفكره أثر في المجتمع أو أن يلتحم به، كما تقول، لكن ما حيلته عندما تتوسط هذه العلاقة بين فكره والمجتمع ثقافة بل ثقافات مجهولة الأصول إلى حد القول بأنها معولمة؟ وما حيلته إذا كانت الفضاءات والحركات التي كان في الإمكان أن تحمل أو تتحمل فكره قد تقلصت؟ ما حيلته إذا لم تعد للفئات الصاعدة أحلام ولا طوبيات كان قادراً على صوغها على أنها قابلة للتحقق؟ سعى المفكرون، بصدق وقوة أحياناً، إلى إيجاد اللحمة التي كان يرى البعض أنها الرابط بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني ويراها آخرون في الالتزام، ولكن هذه اللحمة في العالم العربي باغتت بظهورها حيث لم تكن منتظرة، أي في أكثر الفضاءات الفكرية محافظةً أو سلفية، وذلك أنّ من كان يسمى مثقفاً تقليدياً أصبح أكثر عضويةً ممن كان يسمى مثقفاً عضوياً. يمكنك أن تخاف أو تغضب أو تُحبط ويمكنك أن تسمي هذا نكسة أو نكبة أو كارثة وما شابه ذلك ولكن لا يمكنك نكران اللحمة التي استطاع أن يوجدها التطرف والتكفير، بل وحتى الإرهاب مع فئات من المجتمع. وهو مجتمع يدفع الآن ثمن ثقافة الخوف التي تركها تسود فيه.
وهل المفكر محكوم بأن يختار بين الوقوف الى جانب سلطات تضعف او تعثر على مشروعيتها خارج الحدود كما يقول كثر، وبين الوقوف الى جانب مجتمعات تزداد تزمتاً وتخلفاً في جوهرها، وتنطق ظاهرياً بالشعارات الكبرى؟
- من حسن الحظ أن الواقع أكثر تعقيداً وتنوعاً من هذه الثنائية الدرامية وأن في الإمكان أن يكون للمفكر موقف نقدي من السلطة ومن المجتمع في آن، وهو الموقف المناسب ما دام الفكر يعني تجاوز الواقع نحو الممكن، بصورة دائمة. ثم إنه موقف لا يكون، في محصلته النهائية، إلا لمصلحة المجتمع. ليس محكوماً، إذاً، على المفكر أن يختار بين موقعين لا يقبلهما. وغالب الظن أن معظم الذين انسحبوا إلى الحيّز الخاص فعلوا ذلك للتخلص، أيضاً، من رداءة هذا الاختيار.
انت اهتممت دائماً بمفهوم موقفنا من الآخر، فاين هو الآخر اليوم في حياتنا، وأين سيكون اذا استمرت الاوضاع على ما هي عليه؟
- ما المقصود بالآخر؟ ولماذا يذكره العربي في صيغة المفرد لا في صيغة الجمع؟ ولماذا نفهم، تلقائياً، أن المقصود به، تحديداً، هو الغرب؟ المسألة ليست لغوية وإنما هي حصيلة تراجع تاريخي اجتماعي ثقافي طويل. عندما كانت الثقافة العربية في مدها الحضاري كان الآخر فيها متعدداً وكانت تعترف بما كانت تسمّيه الأمم العظيمة كاليونانية والهندية والصينية والفارسية التي أخذت عنها الحكمة والعلم والصنعة. كانت هذه الثقافة واثقة من نفسها فلم يكن هذا الآخر يمثّل مشكلاً لها. وإذا رجع العربي المعاصر إلى كتّاب من نوع الجاحظ وأبي حيان التوحيدي فإنه لا شك يعجب مما كان لهم من تقبل الآخر ومن اعتراف له بخصال قد لا يرونها في العربي. أما ما يراه إخوان الصفا في الإنسان المثالي من الجمع بين نسبة الفارسي ودين العربي ومخبر العبراني ومنهج المسيحي وعلم اليوناني وبصيرة الهندي، الخ... فهذا ما يصعب أن تتسع له رؤية الكثير من كتاب عصرنا.
ولأن صورة الآخر هي نتاج اجتماعي فإن تراجع المد الحضاري والثقافة معه وظهور تحديات خارجية أفضت إلى الاستعمار والإخضاع والتبعية فإن هذه الصورة أعيد بناؤها في المخيال الجماعي وفي الخطاب، عبر أوضاع التراجع والدفاع عن الذات. لقد أصبحت زاوية النظر إلى الآخر حادة، بالمعنيين للكلمة: ضاقت الرؤية فلم تعد هناك مسافة مناسبة، كما يقول الأنتروبولوجيّون، بين العرب والغرب. ولقد تبينت اليوم أكثر من أي وقت مضى حدة المسافة غير المناسبة بين ثقافة الغرب وبين ثقافة عربية هي الأقرب إليه والأكثر اختلافاً عنه في الوقت نفسه.
لكن هل يعرف العربي الآخر، حقاً؟ لقد طال تشكّيه من تشويه صورته ولكنه لا يسأل بجدية عن تشويه صورة الآخر لديه. ماذا أوجد من آليات المعرفة العلمية وكم أنشأ من مؤسسات بحثية لمعرفة هذا الآخر ولفهم رؤيته ولتفسير مواقفه؟ لا شيء خارج المتفرقات المدرسية أو الإعلامية ودعايات السياسة أو إسقاطات الوجدان. أعطيك مثالاً ملموساً: ليس هناك، في حدود علمي، أطروحة دكتوراه واحدة في علم الاجتماع من بين ما أعده الطلاب العرب في الجامعات الأوروبية، خلال نصف قرن، موضوعها مجتمع أوروبي. وإذا صادف أن كانت هناك استثناءات نادرة فليس لها مردود معرفي معروف، هذا في حين أن الباحث الأوروبي إذا جاء إلى بلد عربي فلدراسته لا لدراسة مجتمعه الأصلي. أما المؤسسات الأوروبية والأميركية والإسرائيلية المتصلة بالعالم العربي فعددها وتنوعها يقابلهما فراغ عربي غريب.
الآخر الغربي، وهو في الواقع متنوع، له صورة مختزلة وعنيفة في مخيالنا وخطابنا يجب إعادة بنائها من خلال المعرفة العلمية والآليات العقلية كشرط ضروري لكنه لا يكفي. أقول لا يكفي لأنه لا بد مع ذلك، على الأقل، من أمرين: العمل على تعديل العلاقة الموضوعية بالآخر، بما في ذلك مقاومة هيمنته ودفعه إلى الحد منها لأن صورته، مهما حسّنها بعض العرب القابلين للهيمنة، لن تتغير في جوهرها ولدى الفئات الواسعة إلا إذا تخلى عن هيمنته. الأمر الثاني أن يتسع المجتمع المدني للحريات التي تتعدّد معها صور الذات، بالتالي صور الآخر. المجتمع التعدّدي هو وحده القادر على توسيع الرؤية للآخر وعلى تنويع المواقف منه وعلى تفكيك قوالب التعبير الجامدة في تناوله.
الترجمة ترياق
لديك حماسة كبيرة لمشروع الترجمة، فهل ترى فيه ترياقاً ما لحال التردي، التي يعاني منها المفكرون بقدر ما يعاني منها الذين يفكر عنهم من دون ان يدروا وربما من دون ان يريدوا ايضاً؟
- إذا كان لتردّي الفكر ترياقٌ فهو ترياق مركّب ليست الترجمة إلا أحد مكوّناته. لنترك المجاز ونحصر الموضوع: وضع الترجمة في العالم العربي لا يكفي وصفه بأنه متردٍّ. إنّه مرعب، لا كحقل من حقول المعرفة فقط وإنما كمؤشر على تخلف الوعي السياسي، أولاً، والثقافي ثانياً. الترجمة ليست عملية تقنية، في جوهرها. إنها تطبيق سياسي لمبدأ دستوري عربي يزعم أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية. هذا المبدأ غير مطبّق، والحديث عن لغة رسمية يعني التعامل بها في الرسميات. ومن دون دخول في الجزئيات، يمكن القول، من دون رغبة في الإفراط، إن المجتمع العربي اليوم لا لغة له. لغاته خليط هجين تتقاسمه النخب والفئات فتعطيه كلٌّ منها نكهته، بل ولكْنته الخاصة بها. لا أدري ما مردود هذا، سياسياً، ولكن لا يمكن الشك في أن هذا الوضع مرتبط بإرادة سياسية اختارته أو تركته يتفاقم. هناك مبررات تقليدية ركزت طويلاً على الصعوبات التقنية للتعريب. وقد زاد منها خضوع اللغة لقانون السوق ولوحشية الربح، فإذا التشويه المتعمّد في كل مكان، إلى حد أن المتعلم لم يعد يدري إن كان المعلّم أم التاجر على صواب في التركيب والإملاء. وبقطع النظر عن علاقة اللغة بالسيادة الوطنية، وهي علاقة لا تبدو أنها موضوع وعي سياسي، هناك في المقابل بعدٌ اجتماعي للغة، وبصورة خاصة في مستوى المجتمع المدني حيث تتضح علاقتها بالمشروع الديموقراطي في مجتمعات تتوزع اللغات أو يتوزع خليطها بحسب الفئات الاجتماعية ومجالات الخدمات والإنتاج. خذ مثلاً تلك المصطلحات التي يُراد لها أن تنتشر في ما يسمى مجتمعاً مدنياً عربياً. كل فئة لغوية لها منها نصيب واستعمال فحال ذلك دون استقرارها، مضموناً وتعبيراً، على صعيد المجتمع وفي الخطاب السائد فيه.
التقارير الدولية ذكّرت العرب بأن ما ترجموه منذ عهد المأمون إلى اليوم ليس أكثر مما يترجمه بلد واحد من جنوب أوروبا في عام واحد. هذا من حيث الحجم، أما من حيث النوع فالوضع صعبٌ ومدهش لأن فيه تنكيلاً بالفكر. تقديري الشخصي أن الكتب المنقولة إلى العربية التي يتداولها الناس عبر الأسواق التجارية ليس فيها أكثر من خمسة في المئة، على أكثر تقدير ومع هامش تسامح، يمكن اعتمادها والاطمئنان إليها والاستشهاد بها، من وجهة علمية. هناك فضائح، والكلمة في محلها، لا تعبّر عن انعدام الجهد والتدقيق في الترجمة فقط، وإنما عن فقدان الأمانة العلمية والأخلاقية أيضاً.
قد تقول: ما الحل؟ قرار سياسي، أولاً، على الصعيد الوطني والقومي لحل المسألة اللغوية، تلبيةً لمطلب طبيعي قديم، وبعث مؤسسات للنهوض باللغة العربية أو على الأقل لحمايتها، أسوةً بحماية الطبيعة، إذا كانت النهضة كلمة كبيرة. موازاة لهذا، وضع استراتيجية عربية متقدمة للترجمة تستفيد من المقترحات التي بقيت حبراً على ورق وترتبط بمخطط إنجاز عملي وبآجال محددة. ثم لِمَ لا يفكر العرب في إحداث صندوق دعم للترجمة، على غرار صناديق أخرى، يتيح إمكان الافادة من الكفاءات الواسعة في نقل المعارف الضرورية. ان العالم العربي يملك من معرفة اللغات الشيء الكثير ولكنه لا يستفيد منها، وقد تفوت فرصة الافادة بعد رحيل الجيل الذي عرف معظمها في سياق تاريخي سابق.
في انتظار مبادرات من هذا النوع، تسعى بعض المؤسسات غير الحكومية، بإمكانات محدودة، إلى المساهمة في جهد من نوع جديد وفي إنجاز ترجمة متقدمة تقوم على رصد جماعي للفراغات الكبرى في المعرفة العربية وعلى الدقة والأمانة في نقل ما يساهم في تلبيتها. هذه، على الأقل، توجهات المنظمة العربية للترجمة التي بيّنت تجربتُها أن الترجمة الموثوق بها تجد التقدير والرواج دائماً، وأن لا خوف من قلة القراء العرب في هذه الحال.
في عودة ما الى العقود الماضية، ألا يتوجب علينا ان نطرح سؤالاً عما اذا كانت الحداثة الاستعلائية مسؤولة الى حدٍ ما عما نعيش؟
- إذا كان المقصود بالحداثة الاستعلائية تلك التي تصوغها النخب، فالحداثة استعلائية بالضرورة. هناك سياقات تاريخية توجد التفاعل بين الرؤية الفكرية للحداثة والمجتمع وهناك سياقات أخرى لا توجده. عربياً، المسألة أكثر تعقيداً لأن مفهوم الحداثة نفسه في الخطاب الفكري، فضلاً عن الخطاب السياسي، ملتبس لأنه مختزل ومجزّأ وليس له حامل ثقافي قوي يحمله. وفي المناسبة، فهو لا يكاد، علمياً، يخرج عن نطاق الفلسفة وتاريخ الأفكار إلاّ عرضاً. لهذا لا يمكن القول إنه مفهوم مركزي في الخطاب العربي. الاهتمام الأكبر هو بالتحديث. وهو غالباً ما يكون تحديثاً بلا حداثة. وأعتقد بأن أصل الإشكال هو في أن الفكر العربي، إجمالاً، لا يقبل مفهوم القطيعة، ولا يُقدم على بنائه، في حين أن الحداثة هي، أصلاً، قطيعة. صحيح أن بعض الفترات مثل فترة ستينات القرن الماضي عرفت إعلاناً للقطيعة التغييرية أو الثورية ولكنها لم تتراكم وانتهت، دائماً، بانتكاسة.
الخطاب العربي السائد لا يزال يعيش ثنائيات تقليدية لا هو قادر على حلّها ولا هو قادر على التخلي عنها، من نوع الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة وما إلى ذلك مما جعل هذا الخطاب مجالاً تتقاطع فيه وتتداخل العصور والمرجعيات والأنساق والمفاهيم، من دون الإحساس غالباً بما بينها من تباعد أو تناقض. يبدو أن المهم هو أن يكون هناك جمعٌ بين طرفي المعادلة ولو كانت معادلة مستحيلة، فكرياً وعملياً. في الإمكان أن أوضح فكرتي أكثر: عندما يضع الإنسان إشكالاته في مستوى الثنائيات فهو يحكم عليها، مسبقاً، بعدم الحل. وإذا كان تعوّد على ذلك فلأنه لا يرى المسافة الكبيرة والخلاقة بين الشيء وضده، بين الخير والشر، بين الحب والكره، بين الصواب والخطأ، باختصار، بين الأبيض والأسود. هذا في حين أن في إمكانه أن يتصور مثلاً، أنّ الصواب خطأٌ لم يكتمل وأن الخطأ صوابٌ لم يكتمل. مجرد هذا التصور يفتح لفكره أبواب الاجتهاد.
من دون قطيعة فكرية ومعرفية مع الثنائيات التقليدية قد يكون هناك تحديث ولكن لن تكون هناك حداثة. اللجوء إلى الخصوصية لا ينفع لأن التمسك بها قد يعني التمسك بخصوصيات التخلّف. أما إذا كانت الخصوصية بالمعنى التاريخي فالخصوصية ليست حكراً على العرب. كل المجتمعات لها خصوصياتها، بما فيها تلك التي أحدثت قطيعة في تاريخها أدخلتها الحداثة. باختصار، من التوهم القول إن الحداثة في الفكر أو في المجتمع العربي لها دخل في ما آلت إليه الأوضاع. هذه الأوضاع، على رغم كل أشكال التحديث، هي أوضاع ما قبل حداثية، تماماً مثل ما يسمى مجتمعاً مدنياً عربياً وهو لا يزال مجتمعاً ما قبل مدني.
رؤية كلية
وفي مواجهة التغيرات التي طرأت، من ترييف المدن، الى الغوص في التخلف، الى استشراء العنف، أي دور يمكن بعد للفكر العربي، او للمفكر العربي ان يلعبه؟
- أمام ظواهر من هذا النوع لها طابع المشكل يبدو لي أن على المفكر أن يحافظ، أولاً، على رؤية كلية للظواهر. يجب ألا يلبى بسهولة طلب الحلول الجزئية أو القطاعية، كما يقال. هذا هو مبدأ الوصول إلى أصل الظواهر وإلى تحديد أبعادها، أي إلى ما هو أساسي فيها، قبل الدخول في تفصيلاتها. المفكّر، خلافاً للمثقف المقاول، ليس حلاّل مشاكل. طبعاً، هناك متخصصون حرفيون أو ميدانيون لهم خبرة في تناول هذه المشاكل بأقدار مختلفة من الجمع بين الفكر والتقنية.
تعوّدنا أن نصنف المفكرين بحسب أدوارهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية والأيديولوجية التي نجهد النفس في استخراجها من خطابهم، لكننا قلّما نصنفهم بحسب طبيعة الفكر أو المعرفة التي ينتمون إليها ويتصرفون فيها، وهذا في حد ذاته موقف سلبي من المعرفة أو موقف أيديولوجي على حساب المعرفة. أشير إلى هذا لتبرير القول إنه، خلافاً للمقولات الشائعة، يحتاج المفكر العربي إلى تعميق فكره، كضرورة أولى، أكثر مما يحتاج إلى أدوار قد لا تحتاج إلى فكره وقد تحوّله إلى مقاول فاشل. متى يقتنع الناس بأن تعميق الفكر هو تعميق للوعي وأن تعميق الوعي هو، في حد ذاته، عمل معرفي ثقافي واجتماعي وحتى سياسي كبير وأنه بالتالي نمط من الارتباط بالمجتمع كما يراه المفكر؟ أليس هذا ما فعله كبار المفكرين في تاريخ البشرية؟ في اتجاه معاكس أيضاً للمقولات الشائعة، أعتقد بأن ما ينقص الفكر العربي عموماً والمعرفة العربية خصوصاً هو البعد النظري، إذا اعتبرنا أن النظري لا يعني العموميات وإنما هو حصيلة الجهد المعرفي في بناء الأفكار والأحكام وما يرتبط بها من مفاهيم.
كل مشهد ينسيك ما قبله
"... هكذا، يجد الانسان نفسه، ومعه الحركات الاجتماعية، في حضرة ثقافة سائدة بلا مثقفين، مجردة ? تعميماً او تفتيتاً - تحمل افكاراً بلا فكر، دلالاتها معلقة، بلا مرجعية. ولأنها كذلك فهي يمكن ان تنشر مفاهيم مجتمع بلا بشر ومجتمع مدني بلا مدنية وحقوق انسان بلا انسان، وقس على ذلك الكثير.
هذه الثقافة التي فقدت أصولها الاجتماعية هي ثقافة العابر. هي، أساساً، ثقافة المتخيل، ثقافة غير الواقعي Virtuel الذي لم يعد فيه ربط ممكن بين الذات والموضوع. هي ثقافة"الناس جميعاً"أي ثقافة لا أحد. انها ثقافة خفية الاسم Anonyme، لا باعتبار منتجها فحسب، وإنما ايضاً لأنها لا مكانية ولا زمانية. إنها، اكثر فأكثر، ثقافة بلا ذاكرة: كل مشهد منها ينسيك ما قبله، كما هي حالها في التلفزيون. كل يوم تشهد شبكة الانترنت ظهور مئات الملايين من الصفحات الجديدة، مع تعديل او سحب عدد مماثل من الصفحات. وفي حين اننا نستطيع ان نلمس ونقرأ ونشم مخطوطاً مضت على كتابته قرون، فإن متوسط العمر لصفحة الانترنت لا يزيد على 15 يوماً. وقريباً سيكون من يتحدث عن التراث كمن يتحدث عن عصر ما قبل التاريخ.
ثقافة العابر هذه تحتاج الى نمط من"المثقفين"العابرين الذين ينحصر وجودهم في لحظة عبورهم. لا وجود ولا أثر لهم بين حلقتين من حلقاتها. ذلك ان ظهورهم هو شرط وجودهم. ليس مطلوباً منهم التفكير وإنما التجلي. لكنهم، في حدود عبورهم، يضعون لك الاسئلة والأجوبة وينتظرون منك ما يكفي من الغباء لتربح"المليون"! ثم هم قادرون قدرة عجيبة على وضع كل الناس في فصل دراسي واحد ليعلموهم الاخلاق والسلوك واللغة والطبخ وينتقلون بهم من ارسطو الى ترويض الكلاب. وطبعاً، لهم من اللياقة ما يكفي ليشكروا الجميع على حسن انضباطهم. في الأثناء لا احد يكون قرأ كتاباً او تأمل او نظر في شؤون دنياه. وعلى كل، فأُولى وظائف الضجيج هو ان يحول دون سماع غيره. وبما انه ضجيج سائد ومؤسسي فإنه يمثل صعوبة اضافية في الربط التحليلي بين اصوات الفكر وأصوات المجتمع. وليس من شك في ان هذا يدعو الباحث الى استنباط آليات جديدة لالتقاط هذه الاصوات.
هذا المشهد له ملامح كونية، ولكن العلاقة المتفككة بين الثقافة والمجتمع - وإن تشابهت تجلياتها - لها طبيعتان مختلفتان في المجتمعات التي لها وضع العرب في امبراطورية العولمة وفي المجتمعات التي لها سيادة الضبط والتحكم في هذه الامبراطورية. ان الثقافة في المجتمعات المنتجة للظواهر المعولمة تبقى، كمحصلة، مرتبطة بواقع هذه المجتمعات، عبر الرؤى والأهداف التي تحملها. لذلك فإن المثقفين في هذه المجتمعات، سواء ساندوا هذه الثقافة او ناهضوها، يبقون وراءها كمحصلة جدلية. طبعاً، لكل ثقافة محصلتها، تاريخياً. محصلة الثقافة العربية نعرف وضعها الراهن: هوية سردية، لا تاريخية، خليط من حكايات أزمنة متفرقة. ومثلما أخذ المثقفون العرب عن هذا الخليط او مثلما اخذوا، يوماً ما، مما بدا لهم اكثر الفكر تقدماً في العالم، فهم، اليوم، اكثر من أي وقت مضى، يلتقطون الافكار والمسائل مما هو متوافر في الثقافة السائدة. وهم لذلك قد يتجندون لمقولة عارضة، سرعان ما يتخلون عنها لغيرها، من دون ان يكونوا صاغوا عنها اسئلة او اجوبة جوهرية. ان هذه الافكار والمسائل غالباً ما تكون ملجأ لفكرٍ لا يجد سبيلاً الى علاقة اوثق بواقعه. وهي، على كل، هروب بالدلالة الى غير مواقعها الاجتماعية".
من دراسة للطاهر لبيب
بعنوان "ثقافة بلا مثقفين"
المستقبل العربي - 2002
من اخترع الآخر
يقوم نفي الآخر على صورة يبنيها صاحبها مثلما بنيت صورة الثعبان او الشيطان. المهم ادراك ان موضوع النفي هو صورة الآخر. والصورة غير الواقع، حتى وان كان الصراع حولها من رهانات الواقع. لذلك فإن مبررات الموقف من الآخر - وهي ليست محل نظر هنا ? قد لا تجد مصدرها في الوعي بواقعه بقدر ما تجده في العلاقة بصورته. من المهم، كذلك، ادراك ان صورة الآخر تحيل الى واقع من يبنيها وتعبر عنه اكثر مما تحيل الى واقع من بنيت صورته.
صحيح ان الغرب اخترع شرقه، لكنه صحيح كذلك ان الشرق اخترع غربه: كل من موقعه، وكل بطريقته وآلياته. واذا كان اختراع الآخر يحول، في الحالين، دون معرفته فإن"الجواب عن الاستشراق ليس الاستغراب"، كما يقول ادوارد سعيد. ان السمة الغالبة في التناول العربي للاستشراق هي رفض الصورة التي يحملها عن العربي والمسلم والبحث لها عن سياقات ودوافع. غير ان هذا الرفض لا يوازيه تساؤل عن الصورة التي يبنيها العربي عن الغرب، وعن علاقتها بواقع الغرب. انه يتشكى من"تشويه"الغرب لصورته، لكنه لا يتنبه الى ان صورة الغرب يمكن ان لا تكون اقل تشويهاً في مخياله وخطابه. وهو ما قد يعني انه في الوقت الذي يريد ان يكون ذاتاً يواصل التخيل والكلام كموضوع او كمرمى مستهدف.
لقد بقي نقد الاستشراق في جوهره ملاحقة للذات. انه تصيد لها خارج فضاءاتها المعهودة. قد يكون ذلك بأدوات معرفية متقدمة وبذكاء كبير، كما هو الشأن في"استشراق"ادوارد سعيد، لكن العلاقة بالنص الاستشراقي تبقى ذات شبه كبير بعلاقة الرحالة بالبلد الذي يرحل اليه بحثاً عن ذاته. هذا البحث المتواصل عن الذات في فضاء الآخرية يمتد الى مجالات مختلفة، ومنها المعرفة: ما أنجزه الدارسون العرب في أوروبا عن أوروبا ضئيل بالنسبة الى ما أنتجوه فيها عن انفسهم. ومعلوم انهم في اوطانهم ليسوا اكثر تخصصاً فيها ولا في مقررة مصائرهم ومصائبهم، أميركا. ادوارد سعيد الذي ابرز ما في الاستشراق من علاقة بين المعرفة والقوة رأى ان"مجرد وجود حقل كالاستشراق لا معادل له في الشرق يوحي بما للشرق والغرب من قوة نسبية"وأن"الهيمنة الثقافية تستمر برضى الشرقيين، كما تستمر بضغط اقتصادي مباشر من قبل الولايات المتحدة. انه مما يدعونا الى التفكير ان نجد، مثلاً، في الولايات المتحدة عشرات المؤسسات التي تدرس الشرق العربي والاسلامي في حين لا توجد في الشرق مؤسسة واحدة لدراسة الولايات المتحدة، على رغم ان هذه الاخيرة تمثل التأثير الاقتصادي والسياسي الاساسي في المنطقة".
من تقديم لكتاب "صورة الآخر"
للطاهر لبيب 1999


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.