كانت اياماً بهيجة في صنعاء، في اواخر نيسان أبريل الفائت، محمولة على جناح الدورة الثانية لمهرجان الشعراء الجدد في الوطن العربي. وسألخص انطباعاتي المباشرة حول هذا الغرس الشعري الهادر الجميل في ستة انطباعات موجزة. الوزير وصحبه الاولى: هي تثمين الجهد الخارق الذي بذله خالد الرويشان وزير الثقافة اليمني الكاتب والمبدع صاحب"الوردة المتوحشة" وفريق العمل التحضيري النشط المعاون: بدءاً من الشاعر الصديق القديم عبدالكريم الرازحي، مروراً بالشعراء الشباب علي المقري واحمد السلامي وسعيد الشدادي، وليس انتهاء بالشباب الرائع عائد وبدر وابراهيم وغيلان، هذه الكتيبة المقاتلة التي سهرت ليالي عديدة من اجل راحة نحو أربعمئة شاعر وناقد وصحافي، ومن أجل أن يصل العرس الى بهائه السامق. الثانية: هي الإعجاب باللمسة الرفيعة التي تجلت في تكريم الناقد العربي السوري الكبير كمال ابو ديب صاحب: الرؤى المقنعة، وجدلية الخفاء والتجلي تقديراً لجهده النقدي وانجازه النظري في مسيرة النقد العربي الحديث، وألقى اضواء جديدة على هذا الجهد المرموق كل من عبدالعزيز المقالح الذين يسمونه: بوابة اليمن وصلاح فضل وحاتم الصكر، من غير ان يغفل احدهم ثغرات يراها تشوب جهد ابو ديب النقدي الاصيل والحق ان عمل ابو ديب النقدي يستحق وقفة مستقلة متأنية الصفوة والحرافيش الثالثة: هي ما أثاره تقسيم ضيوف المهرجان الى فئتين فئة ضيوف الشرف، وفئة الضيوف العاديين من امتعاض، واستياء والحق أن هذا التقسيم ينطوي على نوع من التمييز الطائفي أو الطبقي، مما يأباه الشعر والشعراء، وواضح ان ذلك التمييز لم يتم على اساس فني، بل على اسس اجتماعية، ومجاملاتية وبراجماتية. وآية ذلك أن بعضاً من الضيوف"العاديين"كان"أشعر"من بعض"ضيوف الشرف". وعلى رغم أنني كنت ضمن ضيوف الشرف في الدورتين - الماضية والحالية - فإنني اهيب بمنظمي هذا المهرجان الجميل، أن يعدلوا في الدورات المقبلة، عن ذلك التمييز الطبقي بين الشعراء، تطبيقاً لمبدأ المساواة فالشعراء سواسية كأسنان المشط وصرفاً لأية احتقانات قد يسببها ذلك"الفصل العنصري". هل العمود جديد؟ الرابعة: هي الحضور الطاغي للشعر العمودي التقليدي، ما جعل الكثيرين يتساءلون: ما معيار"الجديد"الذي ينص عليه عنوان المهرجان؟ هل هو جديد الزمن أم جديد عمر الشاعر أم جديد الشعر؟ ناهيك عن البحث عن"الأجدّ"بحسب تعبير المقالح، وكيف يستقيم وصف المهرجان بپ"مهرجان قصيدة النثر العربية الشابة"بينما نصف ما استمعنا إليه كان شعراً، عمودياً أغلبه في المدائح الدينية أو المدائح السلطوية الوزارية؟ شعراء النت الخامسة: هي غلبة الرديء الغث على ما استمعنا اليه من شعر"جديد"وعندي - لهذه الغلبة - تفسيران، احدهما عام وثانيهما خاص: التفسير العام هو أن الرداءة مصاحبة لكل تيار ولكل جيل ولكل مرحلة، ويدلنا تاريخ الشعر كله على أن كل حركة شعرية لا يصمد من جيوشها الجرارة - بعد الاستصفاء والفرز - سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. أما التفسير الخاص المتعلق بهذه الدورة تحديداً فهو أن غلبة الرداءة راجعة إلى ان معظم شباب الشعراء المشاركين هم من اهل شبكة"النت"الذين يتحاورون مع بعضهم بعضاً ومع بعض الشعراء اليمنيين القائمين على تحضير المهرجان، عبر المنتديات والمواقع والايميلات هذه الشبكة التي يدخلها كل شاب يحاول الكتابة، وينصب نفسه شاعراً بلا قاصمة أو رقيب او حسيب ثم يدشنة اصدقاؤه المتحاورون معه على الشاشة شاعراً نابغاً خارقاً، كما يدشنهم بالمقابل شعراء نابغين خارقين، في عملية تكريس براجماتية متبادلة، لتتشكل من كل ذلك - تحت الأرض او في اثير الهراء - طبقة وهمية من شعراء وهميين. ليس هذا الوصف إطلاقياً شاملاً جامعاً، فلن نعدم شعراء حقيقيين قليلين في قلب هذه الشبكة الشعرية الزائفة. ولذلك فإنني اناشد القائمين على اختيار الشعراء: تجنبوا"شعراء النت"الوهميين، واحذروا المديوكر الركيكين فقد آن ان تتم الغربلة والانتقاء والفرز، من الدورة المقبلة، بعد دورتين كان المبدأ فيهما هو الإتاحة للجميع في جمهورية الشعر الديموقراطية بتعبير الرازحي من دون هذه الغربلة فإن غلبة الرديء، باسم الديموقراطية، ستضر بقضية الشعر الجديد من حيث أردنا أن نفيده ونعليه، فننكص خطوات واسعة عديدة، ونحن ما كدنا نتقدم خطوة! والواقع ان ضرورة الفرز لا تنطبق - فحسب - على الشعر الجديد، بل تنطبق كذلك على كل الأشكال الشعرية: العمودي الطافح بالمدائح، والتفعيلي الطافح بتقليد درويش، والنثري الطافح بافتقاد الأدوات الأولية. تعارض الحجب والكشف السادسة: هي التي يلخصها سؤال طوّف في ذهني بينما استمع الى بعض الشاعرات اليمنيات المنقبات وهن يلقين شعرهن: هل يمكن ان يلتقي النقاب والشعر؟ فعندي أن كلاً من"النقاب"وپالشعر"هو منظومة من القيم الفلسفية والاخلاقية المتماسكة المتلاحمة، وكل منظومة منهما"تناقض"الأخرى في الجوهر العميق. منظومة"النقاب"تعني عدم الثقة بالآخرين، ووصمتهم بالدونية والتلوث والتوحش سلفاً وتنطوي على معادلة غير عادلة او نزيهة فحواها: انا أراك فهذا حقي، وأنت لا تراني فهذا ليس من حقك لأنك أدنى، مبدأ المنظومة هنا: التحريم والاقصاء. ومنظومة"الشعر"تعني الثقة بالآخرين واعلاءهم كمشارك وحكم وقاضٍ، وتنطوي على معادلة نظيفة قوامها الندية والمساواة الإنسانية والحق المتبادل، مبدأ المنظومة هنا هو الإباحة والإِدناء. النقاب - إذن - ليس مجرد زي، بل هو حامل فلسفة والشعر ليس مجرد قول، بل هو حامل فلسفة. هكذا فإن: منطق النقاب هو الخفاء، بينما منطق الشعر هو التجلي ومنطلق النقاب هو الحجب، بينما منطلق الشعر هو الكشف. ما أبعد الشقة بين النقاب والشعر وما اوجع هذا التعارض المرير عند شاعرات لا يدركن ان الشعر جسد وان الجسد شعر، وان قتل احدهما يستلزم قتل الآخر. ايتها الشاعرة المنقبة إذا كنت لا تثقين في جمهور المستمعين، فلماذا تعرضين عليهم، شعرك؟ ألا يحق لهم ? بالمقابل - أن يقولوا: ونحن بدورنا لا نثق في هذا الشعر وفي هذه الشاعرة؟.