ظاهرة الارتفاع الكبير في أسعار النفط التي تشهدها الاقتصادات العربية منذ بضع سنوات، كانت لها من دون شك انعكاسات كبيرة على الأوضاع والسياسات الاقتصادية في معظم، إن لم يكن جميع الدول العربية. ولم يقتصر تأثير هذه الظاهرة كما يبدو على الدول النفطية بل انسحب كذلك على الدول العربية غير النفطية. إن تزايد الفوائض المالية في شكل غير مسبوق أثر على نمط الانفاق والاستثمار، كما أدى نتيجة للسيولة الكبيرة والمفاجئة إلى سخونة الاقتصاد وارتفاع مبالغ فيه في أسعار الأصول، وفقدان السيطرة على استقرار الأسعار وارتفاع مقلق لمستويات التضخم. كما تفاوتت السياسات الاقتصادية للدول العربية في التعامل مع هذه الظاهرة. ففي وقت حافظت السياسة المالية إلى حد ما على توازنها وحذرها في التعامل مع هذه الظاهرة، لم تأخذ السياسة النقدية وضعها الطبيعي في ضبط إيقاع الدورات الاقتصادية وكبح جماح التضخم والحد من اندفاع تدفقات السيولة وحجم الائتمان. سنحاول من خلال هذا المقال التطرق إلى الجوانب المختلفة لظاهرة ارتفاع أسعار النفط وأثرها على الاقتصادات العربية، وذلك ضمن استعراض إيجابيات وسلبيات هذه الظاهرة والإشارة إلى الاصلاحات المطلوبة لزيادة الإيجابيات والتعامل في شكل أفضل مع السلبيات التي تثيرها مثل هذه الظاهرة. التأثيرات الايجابية في شكل أساسي هناك جوانب مهمة تمثل إيجابيات إرتفاع أسعار النفط على الاقتصادات العربية: 1 لا شك في أن زيادة الايرادات النفطية ساعدت على تحسين معدلات النمو الاقتصادي الذي يقدر بحوالى 6 في المئة خلال السنوات الثلاث الماضية مقابل نسبة لا تزيد على 3.6 في المئة خلال التسعينات. إن ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي زاد توافر فرص الاستثمار ومشاريع التنمية، كما أدى إلى خلق فرص عمل ساعدت على تخفيف معدلات البطالة وفي بعض الحالات تحسين مستويات المعيشة. 2 إن الفوائض الجديدة في الإيرادات النفطية لم تذهب كلها في شكل مصروفات وإنفاقات مثلما حصل في الفورة النفطية الأولى خلال السبعينات. هذه المرة يبدو أن تعامل الدول النفطية مع الفوائض المالية كان أكثر حذراً حيث على رغم ملاحظة زيادة الإنفاق على بند الرواتب والأجور والإنفاق الاستثماري على مشاريع البنية الأساسية، إضافة إلى زيادة مخصصات قطاعات التعليم والصحة، إلا أن الجزء الأكبر من الفوائض المالية وظف في شكل رئيس في مجالات تعتبر إيجابية. أ تعزيز المدخرات من خلال إنشاء صناديق الاستقرار المالي وصناديق الأجيال القادمة. يقدر أن الدول النفطية ادخرت حوالى ثلثي الإيرادات الإضافية التي تراكمت لديها منذ عام 2002. وما يعكس المستوى المرتفع للادخار بالنسبة للدول النفطية أن فائض الحساب الجاري لديها وصل إلى أكثر من 21 في المئة من الناتج الاجمالي المحلي. ب تعزيز الاحتياطات الأجنبية لدى البنوك المركزية. لوحظ ارتفاع كبير في مستوى الاحتياطات الأجنبية للدول العربية خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث ارتفعت هذه الاحتياطات بمقدار الضعف حتى وصلت إلى أكثر من 500 بليون دولار مع بداية هذا العام. 3 تراجع ملموس في مديونية القطاع العام. بالنسبة للدول العربية في شكل عام، انخفض الدين العام من حوالي 70 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي في عام 2002 إلى 42 في المئة هذا العام. وفي حال الدول النفطية، انخفض الدين العام من حوالى 50 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي في عام 2002 إلى 25 في المئة في العام الماضي. وكان ذلك واضحاً في شكل خاص في وضع دول مثل اليمن والجزائر وسورية وعمان والسعودية والكويت. 4 من التأثيرات الإيجابية الأخرى للفوائض المالية المترتبة على ارتفاعات أسعار النفط، زيادة تحويلات اليد العاملة العربية في الدول النفطية كما انعكست هذه التأثيرات كذلك في زيادة التجارة والسياحة والاستثمارات البينية. التأثيرات السلبية إن أهم التأثيرات السلبية لارتفاع أسعار النفط على الدول العربية تتمثل أساساً في الجوانب الآتية: 1 التضخم، وإرتفاع تكاليف المعيشة في شكل كبير أديا إلى تدهور المستوى المعيشي لكثير من الأفراد. لكن تأثير ارتفاع تكاليف المعيشة يتعدى في الواقع تدهور المستوى المعيشي للأفراد. بل الأكثر سلبية في هذا الأمر أن ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم أضعفا القدرة التنافسية لكثير من دول المنطقة والقدرة على اجتذاب الاستثمارات والشركات والأعمال. 2 المضاربات في الأسهم والعقارات، حيث أن زيادة السيولة في شكل كبير أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في التعامل بالأصول المالية والعقارية، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها في شكل غير طبيعي نتج منه في ما بعد حركات تصحيحية حادة ومؤلمة كما نشهدها اليوم في بورصات عربية عدة. 3 ما تعانيه الدول العربية غير النفطية من ارتفاع فاتورة استيراد المنتجات النفطية، ما اضطر بعضها إلى رفع أسعار المحروقات، ما رتب ردود فعل اجتماعية غاضبة. 4 احتمالات تراخي جهود الاصلاح حيث أن زيادة الانفاق الجارية خصوصاً في ما يتعلق بالأجور والرواتب والمنح والاعانات، قد تضعف سياسات الترشيد وتقلل من أهمية الانضباط المالي وتزيد من هيمنة القطاع العام. فرصة للإصلاحات تمثل الظروف الحالية فرصة كبيرة لتنفيذ كثير من الإصلاحات الاقتصادية التي قد يصعب إجراؤها وتقبلها شعبياً عندما تكون الظروف الاقتصادية صعبة وليست على ما يرام. على رغم تعدد الاصلاحات الاقتصادية المطلوبة في هذه المرحلة، يمكننا الإشارة إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر: 1 الحاجة إلى مزيد من تنظيم وتطوير الأسواق المالية العربية لتأكيد دورها في تعبئة المدخرات لتمويل المشاريع والاستثمارات المنتجة، وتوفير فرص الاستثمارات المجدية والحرص على ألا تكون مجرد مكان للمضاربة والكسب السهل والسريع. ويتطلب هذا قواعد وإجراءات متطورة حتى نضمن توظيف المدخرات في الإتجاه الصحيح، وحماية صغار المستثمرين من التلاعب وتسريب المعلومات وتضارب المصالح والحرص على فصل الجانب الرقابي عن عملية إدارة البورصات. 2 هذا يتطلب أيضاً عدم السماح لشركات ومؤسسات وهمية بتداول أسهمها في البورصات حيث من المتعارف عليه بأن لا يسمح بإدراج أسهم أية شركة من دون أن يكون مضى على عملها حد أدنى من السنوات في شكل جاد وملموس ومربح، يبرر قدرتها على جذب مدخرات وأموال المستثمرين. كذلك ينبغي الحرص والتأكيد على ضرورة الالتزام بالإفصاح والشفافية لضمان حصول المستثمر على المعلومات الكافية والسليمة التي تمكنه من اتخاذ قراراته الاستثمارية وفقاً لدراية ومعلومات مطمئنة. ويجب إلزام الشركات التي ترغب في إدراج أسهمها في البورصة أن يكون لها تصنيف ائتماني من مؤسسات التقويم المعتمدة والمعترف بها. 3 ضرورة زيادة مستويات الإفصاح والشفافية. إذ لا تزال دول عربية عدة ترفض نشر تقرير صندوق النقد الدولي حول أوضاعها الاقتصادية، الذي يعد وفقاً للمادة الرابعة الخاصة بالمشاورات الدورية مع الصندوق. كذلك فإن عرض موازنات الدول العربية يتم حتى الآن وفي كثير من الحالات بطريقة مبهمة وغير شفافة. إن موضوع درجة الشفافية والإفصاح ينطبق على الشركات والمؤسسات، وثقافة تصنيف الجدارة الائتمانية لم تتطور بعد في منطقتنا، ما يعكس نوعاً من التردد في التجاوب مع الشفافية والإفصاح المطلوب. 4 الحاجة إلى تفعيل السياسة النقدية العربية لكي تتعامل في شكل أفضل مع ارتفاع التضخم وتغير أسعار الصرف العالمية، واختلاف وتباين الدورات الاقتصادية التي تشهدها الاقتصادات العربية. إن تجربة الفورة المالية التي شهدتها الدول العربية المنتجة للبترول نتيجة للإرتفاع الكبير في أسعار النفط وما ترتب عليها من سخونة الأنشطة الاقتصادية والارتفاع غير الطبيعي وغير الصحي لأسعار الأصول، خصوصاً المالية والعقارية، وما ترتب على ذلك من زيادة كبيرة في تكاليف المعيشة وارتفاع مستويات التضخم التي وصلت إلى 7 في المئة. وهذا يشير إلى الحاجة المتزايدة الى إعادة النظر في وضع السياسة النقدية وذلك لممارسة دورها الطبيعي في التعامل مع الدورات الاقتصادية ومكافحة التضخم وتحقيق استقرار الأسعار. كذلك، أن مستوى تدفق السيولة ونمو معدلات عرض النقود التي قدرت بالمتوسط في حدود 20 في المئة سنوياً لم تبد متحفظة للحد من مضاعفات سخونة الاقتصاد ومجابهة خطر التضخم. لقد ارتفع حجم الائتمان في شكل كبير خلال السنوات الثلاث الماضية، من 36 في المئة إلى أكثر من 46 في المئة من الناتج الاجمالي المحلي. والمفارقة اللافتة هي ان في حالات الرواج الذي نحتاج خلاله إلى التخفيف من سخونة الاقتصاد نجد أن منح الائتمان يتزايد في شكل مخيف في هذا الوقت الذي يشح فيه مثل هذا الائتمان الذي نكون في أمس الحاجة إليه خلال أوقات الكساد وضعف النشاط الاقتصادي! الملاحظة الأخرى في هذا الشأن، أننا لم نلمس مبادرات أو محاولات"تعقيم"الاقتصاد على أثر التدفقات المالية الهائلة التي ترتبت على ارتفاع الفوائض المالية، وذلك حتى يمكن التخفيف من حدة ارتفاع الأسعار وفورة الأنشطة الاقتصادية خلال هذه المرحلة. والملاحظة الأخيرة في هذا الصدد تتعلق باحتمال تدهور كبير في سعر صرف الدولار نظراً لتفاقم عجز الحساب الجاري الأميركي الذي وصل إلى مستوى غير قابل للاستمرار. اذ إن مثل هذا الاحتمال إذا تحقق قد يزيد كثيراً من المستوى المرتفع الذي وصلت إليه معدلات التضخم حالياً كما إن من شأن ذلك إضعاف القوة الشرائية للأفراد وامتصاص جزء كبير من الفوائض المالية من خلال ارتفاع فاتورة الاستيراد. إزاء هذه المعطيات نعتقد بضرورة تفعيل السياسة النقدية. 5 الحاجة إلى مزيد من التحسين في مناخ الاستثمار حيث أن درجة الحرية الاقتصادية والشفافية ومستوى الحكم الصالح والجدارة الائتمانية وتكاليف وإدارة الأعمال في الدول العربية، لا تشجع كثيراً على الاستثمار فيها. فوفقاً لمؤشر مؤسسة Heritage Foundation للحرية الاقتصادية، وجدنا أن هناك 13 دولة من أصل 20 دولة عربية تعتبر ضعيفة أو ضعيفة جداً في مجال الحرية الاقتصادية. كذلك وفقاً لمعايير المنظمة العالمية للشفافية ومستوى الفساد وجدنا أن هناك ستة دول عربية فقط وضعها مقبول والباقي دون المستوى المطلوب. أما في ما يخص مؤشر الحكم الصالح الذي أعده البنك الدولي فقد احتلت الدول العربية مراتب متواضعة. كذلك على صعيد الجدارة الائتمانية تبين وجود عدد قليل من الدول العربية تتمتع بدرجات استثمارية كافية. أما في ما يتعلق بظروف وبيئة الأعمال Doing Business فسواء بالنسبة للإجراءات أو للحد الأدنى من رأس المال المطلوب لمباشرة أية أعمال أو إجراءات التوظيف والفصل، أو قوانين الإفلاس وغيره تعتبر بيئة الأعمال في الدول العربية مكلفة وغير مشجعة. لذا لا ينبغي أن نعجب من ضعف جاذبية الدول العربية لرؤوس الأموال والاستثمار، التي تتطلب أن نعطي هذا الوضع الاهتمام اللازم في الإصلاحات المطلوبة. المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي * يعبّر هذا المقال عن وجهة نظر صاحبه ولا يعكس بالضرورة موقف المؤسسة التي ينتمي إليها.