معايير القراءة - 2 وبديهي أن يتصل المعيار الثالث بقدرة القراءة على إضاءة ما كان معتماً في النص المقروء قبلها، وفتح آفاق وإمكانات قرائية لم تكن مفتوحة من قبل، ومن ثم الكشف عن مزيد من الأوجه المحتملة في نصوص هي بطبيعتها حمالة أوجه إلى ما لا نهاية. وطبيعي - والأمر كذلك - إضافة القراءات المتميزة إلى نصوصها، وذلك إلى الدرجة التي تقرن بين الاثنين في الوعي، فتصل بين فاعل القراءة ومفعولها في وعي القارئ اللاحق الذي يضيف إلى النص إنجاز قراءته، ويقرنه بها، في ثنائية متفاعلة، لا تنفصل في وعي القراءات المتتابعة على مستوى الإفراد أو الجمع. ومن ذا الذي يمكن أن يقرأ قصة بلزاك"سارسين"وينسى الدلالات التي اكتسبتها، وأضافت إلى مراح دوالها، بفضل قراءة رولان بارت لها في كتابه الشهير"s/z". وقل الأمر نفسه عن قراءة باربرا جونسون لقراءة بارت في دراسة من دراساتها التي هي قراءة إبداعية لما كتبه بارت عن قصة بلزاك، خصوصاً حين تتحول القراءة الموضوع - عند بارت - إلى علامات مراوغة، تمضي بها بربارة جونسون إلى مدى غير مسبوق من إنطاق المسكوت عنه، وما تنطوي عليه ثغرات النص النقدي الذي يتجسد مع فعل التفسير الجسور الذي قام به بارت، وذلك في دراستها"الاختلاف النقدي: بلزاك سارسين وs/z بارت". ولا يقتصر معيار الإضافة القرائية إلى النص المقروء على القراءات البنيوية وما بعدها فحسب، فهذا المعيار يجاوز المذهبية بمعناها الضيق الذي لا يفارق المدار المغلق لأي تيار نقدي أو أي مذهب قرائي، ويغدو سمة لكل القراءات الخلاّقة التي تجاوز بحكم ما تنطوي عليه من بصيرة حدود مذهبها، وتصل إلى أفق يجاوز المدار المغلق لأي تيار نقدي، ويغدو إنجازاً لا يقلل تعاقب المذاهب من قيمته. وما أكثر القراءات التي تنتمي إلى"النقد الجديد"في هذا المجال القرائي، خصوصاً تلك التي تعيد اكتشاف النصوص القديمة، فتنطقها بما لم يكن منطوقاً من قبل، سواء على مستوى لغة المفارقة التي جعلها كلينت بروكس 1906 - 1994 خاصية نوعية للشعر، وقرأ من منظورها بعض الأعمال الإبداعية في كتابه الشهير في زمنه"زهرية متقنة الصنع"1942 مؤكداً ما أبرزه في الفصل الاستهلالي عن قدرة القصيدة على أن تضم أفكاراً متناقضة، وصوراً ومشاعر متعارضة يقيم الخيال الشعري بينها توازناً لا يخلو من التوتر، كما لو كان معيار القيمة الإبداعية عنده لا يختلف كثيراً عن ما انتهى إليه ريتشاردز 1893-1979 في كتابه الكلاسيكي عن"مبادئ النقد الأدبي"1924 الذي رَدّ فيه القيمة الإبداعية إلى التوازن بين الدوافع المتعارضة، وذلك بما يبقي على حيويتها، ويزيدها توهجاً في تفاعلاتها التي لا تتوقف عبر أزمنة القراءة. وقد بدأ وليام إمبسون 1906 - 1984 تلميذ ريتشاردز من حيث انتهى أستاذه، ومضى في تحليل"أنماط الغموض"التي لا تفارق نسيج النص الشعري في مفارقاته وتعارضات علاقاته ومراوغة دلالاته، فأنتج كتابه"سبعة أنماط من الغموض"1930 الذي لا يزال علامة من علامات القراءة في مداها الذي يضيف إلى النصوص المقروءة، وينطق ما كان صامتاً فيها من قبل الفعل الخلاق للقراءة. ومن المؤكد أن مدرسة"النقد الجديد"أنجزت ما لا يمكن نسيانه في الانفتاح بأفق القراءة للنص الذي تصورته هذه المدرسة مستقلاً بذاته، لا يمكن فهمه إلا في علاقاته الخاصة التي تؤكد وحدته المتميزة، وذلك ابتداء من المفارقة التي لا تخلو منها هذه الوحدة، وليس انتهاء بأنواع التوازيات الرمزية والمراوغات الاستعارية التي تتولى مهمة فك شفراتها فيما أطلق عليه النقاد الجدد ريتشاردز وومزات وبروكس وبن وارن وغيرهم اسم"القراءة الفاحصة"التي تتولى تسليط مجهر القراءة على شبكة العلاقات النصية، فتكشف من تفاصيلها وترابطاتها ما لم يكن في مدى رؤية القراءة العجلى أو العابرة، أو المتحيزة. ولا أظن أن هذا النوع من القراءات التي تضيف إلى نصوصها، فتلازمها في الدلالة وإمكانات الأفق القرائي الذي تنفتح عليه النصوص أو ينفتح هو على النصوص - أقول لا أظن أن هذا النوع من القراءات يقتصر على النقد الأوروبي - الأميركي في مدارسه المتعاقبة، أو المتزامنة، فهناك الإنجازات القرائية العربية التي لا تردد أصداء غيرها، وتضيف إلى النصوص التي قرأتها ما يكشف فيها عن ما ظل معتماً فيها، محتاجاً إلى المزيد من الإضاءة. وتتداعى الى ذهني، في هذا السياق، جهود أمثال عبدالفتاح كيليطو وجمال الدين بن شيخ: الأول في ما كتبه عن المقامات، والثاني في ما كتبه عن"ألف ليلة وليلة". وكلاهما نموذج يضاف إلى إدوارد سعيد الذي فتح أبواب خطاب ما بعد الاستعمار التي كانت مغلقة من قبله، وقرأ بعدساتها ما زاد النصوص تكشفاً، وما أبرز علاقات القوة التي تنطوي عليها هذه النصوص، أو آليات الأدلجة التي تمارسها على قرائها في علاقتهم بموضوعاتها التي تختلط غاياتها الأدبية بغايات غير أدبية. وأتصور أن دافعاً من الدوافع المحركة لبعض تيارات ما بعد البنيوية يرجع إلى رغبة تسليط ضوء الاهتمام القرائي على ما ظل هامشياً، مقموعاً، متجاهلاً في النصوص المقروءة، وذلك بفعل بعض آليات الهيمنة التي يمكن أن تنطوي عليها استراتيجيات القراءة التي لا تخلو من عناصر إيديولوجية تترادف فيها الإيديولوجيا مع الوعي الزائف تحول بين الوعي والانتباه إلى الهامش المقموع الذي يمكن إبرازه في عملية نقدية، ترفع الهامش إلى المركز، وتستبدل بالمركز المألوف المهمش غير المعترف به عادة، فيتخلص من القمع الواقع عليه في فعل القراءة الذي يغدو فعلاً مناقضاً لإيديولوجيا الهوية الجنسية السائدة، وذلك هو المجال الذي انبثقت فيه قراءات النزعة النسائية النسوية؟! كاشفة عن الدوال الأنثوية التي ظلت مقموعة في النصوص التي لم تكشف منها القراءات الذكورية إلا عن ما يتجانس وطبيعتها وما يؤكد حضورها المهيمن. هكذا. انطلق أمثال كيت ميلليت وميشيل باريت، وشولميت فايرستون، وإليزابيث روبنز، وماري إلمان، وهيلين سيكسوس، في الكشف عن الجوانب النسوية المقموعة والمهمشة في الكتابة الذكورية، والمحجوبة عن العين الذكورية في القراءة التي لا ترى إلا ما هو من جنسها، ومن منظور مركزية القضيب، إذا استخدمنا بعض مصطلحات القراءة النسوية. وأتصور أن الملاحظات السابقة يمكن أن تؤكد بعداً مهماً في فاعلية القراءة، ومعاييرها على السواء. وهو البعد الذي يمايز بين النصوص المقروءة تمييزاً تراتبياً بالمعنى القديم الذي يضع الأنواع الأدبية وغير الأدبية في درجات، أعلاها ما يقترن بالأدب"الرفيع"وأدناها ما يقترن بالآداب الشعبية التي ظلت تعاني من الاحتقار طويلاً، أو الآداب الجماهيرية التي يمكن أن ندخل فيها الرواية البوليسية أو الروايات التجارية الذائعة من مثل"شفرة دافينشي"وپ"هاري بوتر"اللتين حققتاً معدلات قرائية غير مسبوقة. وأتصور أن إعادة قراءة الرواية البوليسية هو نوع من اختبار آليات أو استراتيجيات القراءة في مدى هذا المنظور، ومن ثم الكشف عن المزيد من القدرات التحليلية للقراءة التي ترى في النصوص غير"الرفيعة"دلالات تثري الوعي بها في مدى الكشف عن أفق مدلولاتها. وينطبق الأمر نفسه على قراءة رولان بارت لمعطيات الحياة اليومية الفرنسية - عالم المصارعة، التمثيل، الحيوات الزوجية، الألعاب، وجه غريتا غاربو، النبيذ والحليب، البفتيك والفريت، سباق الدراجات، سيارة ستروين، البلاستيك، المطبخ الزخرفي.. إلخ - حيث كشف عن ما يظل قابلاً للكشف - من خلال العلامات المألوفة في الحياة اليومية التي لا يتوقف عندها عابرو السبيل، ويتقبلون حضورها البديهي من دون تأن عند دلالاتها أو مغازيها، فهي بعض الوجود الذي نتقبله في حال إدراكي أشبه بما قرنه لوسيان جولدمان بتسمية"غير الوعي"الذي تكون الحركة فيه حركة آلية، لا ينتبه إليها فاعلها الذي يمارسها من دون وعي بها، كحركة أعضاء الجسم في مداه الحيوي الذي لا يلفت حتى انتباه صاحبه. وقد وضع رولان بارت هذه العلامات موضع الفحص والمساءلة، كاشفاً فيها وبها عن الأساطير الموجودة في الحاضر، مؤكداً أن الحاضر المعاصر يوازي الماضي القديم في صناعة الأسطورة، وأن كل زمان يخلق أساطيره التي يمكن أن نلمحها في أبسط الأشياء، وأكثرها ألفة، فالأسطورة موجودة في زمننا الذي يبدو بعيداً منها، ما ظل كل مجتمع يميل إلى أسطرة معطياته اليومية، وذلك بأن يحيلها إلى علامات ورموز وإشارات وأصوات وصور، هي"كلام"بالمعنى الذي قصد إليه دوسوسير والذي يكشف عن أبنية عميقة يبنيها الوعي الجمعي، ويعيد بناءها، أو ينشئ غيرها، في كل زمان ومكان. وأتصور أن هذه الظاهرة لا تنفصل عما يلازمها من إعادة ترجمة النصوص القديمة، أو إعادة قراءتها في ضوء السياقات المغايرة للتراكمات المعرفية من ناحية، ومغايرة المذهبية الأدبية السائدة في زمن القراءة من ناحية موازية. ولا فارق جذرياً بين إعادة الترجمة أو إعادة القراءة من هذا المنظور، فالترجمة فعل من أفعال القراءة التي تتغير فيها المصاحبات الدلالية للنص المترجم، أو المقروء، نتيجة متغيرات أفق الاستقبال الذي تتحرك فيه الترجمة الجديدة من حيث هي إعادة تفسير أو إعادة قراءة بأكثر من معنى. والأمثلة على ذلك متاحة، تشمل سلسلة من النصوص الكلاسيكية، أو شبه الكلاسيكية، فكرية أو إبداعية، تبدأ من"بويطيقا"أرسطو التي يعاد قراءتها ترجمتها مع كل منظور نقد أدبي جديد، يرى فيها من المصاحبات الدلالية ما يؤكد زوايا نظره المغايرة التي تعيد بناء التراتب في هذه المصاحبات بحسب قواعدها القرائية أو منطلقاتها النظرية. ولا يفترق عن وضع"بويطيقا"أرسطو في هذا المقام إعادة الاعتبار للكتابات الأحدث التي تم تجاهلها وقمعها نتيجة اعتبارات إيديولوجية، وذلك على نحو ما حدث مع كتابات ميخائيل باختين 1895 - 1975 التي ظلت مقموعة في المدار المغلق للستار الحديدي السوفياتي، إلى أن"ذاب الجليد"فاستهلت هذه النصوص رحلة قرائية جديدة بفضل قراءة جوليا كريستيفا وتودوروف وغيرهما من الذين وجدوا في أفكار باختين عن"الحوارية"وپ"الكرنفال"ما ينقض التراتب القمعي بين الأنواع الأدبية، ويستبدل بحضور الصوت الواحد الحضور البوليفيني لتعدد الأصوات، فيحرر النصوص الأدبية من أسر النظرة ذات الاتجاه الواحد، ويفتح الخطاب الأدبي على أفق حيوي من التفاعلات النصية متغايرة الخواص، وذلك على نحو ما حدث في كتابه عن"مشكلات شعرية ديستويفسكي"1929 وپ"رابليه وعالمه"وغيرهما من النصوص النقدية التي أعيد قراءتها في سياق صعود البنيوية وما بعدها. ويعني ذلك كله أن القراءات الكاشفة لا تقتصر على تيار أو مذهب قرائي بعينه، وإنما تمتد بامتداد احتمالات الكشوف القرائية التي لا تتوقف عند حد، والتي يفتح السابق منها الفضاء الأرحب للاحق الذي يضيف إليه في تراكم الخبرات القرائية التي تغدو علامات على أطرها المرجعية التي تجاوزها بقوة الحدس أو البصيرة، ومن ثم إضافات كمية وكيفية إلى الأعمال الإبداعية أو النصوص المقروءة التي لا تتوقف عن غواية القراء في كل تيار يريد أن يؤكد حضوره، أو مدرسة تريد أن تعلن تمايزها في مدى الكشف عن كل ما لا يقدر عليه غيرها. وينطلق المعيار الرابع من مدى الإضافة نفسها، لكن ليس على مستوى النصوص المقروءة وحدها، وإنما على مستوى النظرية التي تبدأ منها القراءة، أو تتخذها إطاراً مرجعياً في النظر والفهم. وأسوأ القراءات هي القراءة الأصولية المدرسية التي لا تفارق الإطار المرجعي، أو تتولى توثين مبادئه بما ينفي المبادرة الفردية، أو رغبة المغامرة التي يمكن أن تبحر بعيداً عن المدارات المغلقة للنظرية، أو تضعها موضع المساءلة المستمرة أثناء التطبيق، فتجدد عناصرها التكوينية، وتبث فيها الحيوية التي تتوثب بها قدرة القراءة، وتصل - في مدى الفعل القرائي الخلاق - إلى ما يجعلها قادرة على تعديل بعض العناصر التكوينية، وإكسابها مدى أكبر من المطاوعة أو المرونة التي تستوعب المتغيرات. ومن هذا المنظور، تغدو كل ممارسة قرائية إضافة إلى النظرية التي تبدأ منها، والتي لا تتردد القراءة في الانتقال بها من الثبات إلى الحركة التي تقضي على احتمالات الانغلاق الممكن الذي لا يخلو منه مدار النظرية الذي ينحو إلى الإيهام بكماله وشموله. وذلك هو العنصر الإيديولوجي الذي لا تخلو منه النظرية فيما يمكن أن تنطوي عليه من وعي زائف بنفسها، وعي ينبني على وهم قدرتها على تغطية كل شيء وقدرتها على تقديم كل حل في أي مجال أو اتجاه مهما كان. ولا خلاص من هذا النوع من إيديولوجيا النظرية الممكن إلا بوضعها موضع المساءلة الدائمة، خلال فعل القراءة التي ينتقل بالنظرية من إمكان الانغلاق إلى الانفتاح الحيوي الذي يستوعب المتغيرات، فيرتفع بالقدرات القرائية للنظرية ومدى إمكاناتها المفتوحة المتجددة في الوقت نفسه. ونتيجة الجدل الخلاق كنتيجة المساءلة، في هذا السياق، هي درجة الإضافة الكمية والكيفية إلى الإطار المرجعي للنظرية الذي ينطلق منه فعل القراءة، والذي يمكن إعادة إنتاجه في كل فعل من أفعال غيره من القراءات التي تعيد صنعه وذلك من منظور إعادة إنتاج النص في تبادل أدواره التي لا تتوقف أو تنقطع. والمستفيد من ذلك كله هو القارئ الذي يضيف إلى قراءته النصوص الأصلية قراءة غيره لها، وذلك من منظور يمكن أن نعده معياراً مضافاً، خصوصاً من حيث ما يمكن أن يشعر به هذا القارئ من إعادة اكتشاف للنص، وإضافة إليه، وتجليه في ضوء جديد، يزيد من غنى النص، ومن ثراء معرفة القارئ على السواء. إن القراءة حضور في العالم وموقف منه خلال علاقة بنص، لا يمكن اختزاله في معنى المحاكاة الكلاسي، أو الرومانسي، أو النفسي، حيث اللاشعور الفردي أو الجمعي، أو الاجتماعي، حيث الطبقة أو الفئة، فالنص - بحكم طبيعته الكتابية - نقض لمعاني المحاكاة أو المطابقة بين طرفين، وهو تمرد على شروط الضرورة في العالم الذي ينتسب إليه، ويستجيب له، ويواجهه مواجهة التحدي في الوقت نفسه. وإذا كانت الكتابة - من حيث هي نص - فعل تحرر من شروط الضرورة، في علاقتها بموضوعها الذي توازيه وتواجهه، فإن الكتابة عن هذه الكتابة هي فعل القراءة الموازي في غائيته، خصوصاً من حيث هو تمرد مواز على شروط الضرورة التي تتمرد عليها عمليات إنتاج الكتابة وعمليات استقبالها في زمن غير زمنها. أعني التمرد الذي لا يكتمل إلا بالكشف - بفعل القراءة - عن المختفي في نص الكتابة، وما يظل منتظراً الضوء الكاشف وراء الصراعات والتوترات والإرجاءات، والمسكوت عنه أو المقموع في النص المقروء.