أخيرا، قرّرت الولاياتالمتحدة إعادة فتح سفارتها في طرابلس الغرب، وشطب اسم ليبيا من لائحة الإرهاب. هكذا كافأت إدارة الرئيس جورج بوش العقيد الليبي معمر القذافي على"القرارات التاريخية"التي اتخذها على مدى السنوات الثلاث الماضية، وقررت، باستئنافها العلاقات الدبلوماسية شبه المقطوعة بين البلدين منذ 25 عاما، تحويل ليبيا"نموذجاً"على أمل أن تقتدي به كل من إيران وكوريا الشمالية. وتأتي الخطوة الأميركية تتويجا لمسيرة أطلقها القذافي عام 2003 بعد شهور من احتلال العراق بقراره التخلي عن برنامج ليبيا لتطوير أسلحة دمار شامل ونبذ الإرهاب والعمل على حل كثير من العقد من طريق إعادة الدفء إلى العلاقات بين البلدين وعلى رأسها قضية لوكربي. فما هي الخلفية السياسية والإيديولوجية لهذا التحول الذي شهده نظام \ القذافي من العروبة الوحدوية إلى القطرية الشوفينية تحت رايات"النظرية العالمية الثالثة"، ومن أوهام التحرر والتحرير والاشتراكية المحققة للعدالة الاجتماعية، إلى اعتناق العولمة الرأسمالية، ومن اعتبار القدس كلمة السر في انقلاب أيلول سبتمبر 1969 إلى إسقاط القداسة عن فلسطين القضية وإسقاط صفة العدو عن إسرائيل، ومن الدعوة لمجابهة أميركا ومساعدة حركات التحرر الوطني في العالم الثالث إلى التسليم المطلق بحق الإدارة الأميركية في أن تعيد تنظيم العالم وفق معاييرها؟ دوافع الخيار الجديد اندرجت"الثورة الليبية"في الخط الناصري المباشر، اذ اعتبر"الضباط الأحرار"في ليبيا تجربة مصر حافزا لهم، والرئيس جمال عبد الناصر"القائد الملهم"، ما اجتذب الشارع الناصري على امتداد الوطن العربي الكبير إلى هذه التجربة الصاعدة. ولعل الالتزام ب"الهوية"الناصرية جعلها تحتل موقعها المميز في الضمير الشعبي، لا سيما أن الرئيس عبد الناصر كان من أوائل المؤيدين للحركة الانقلابية في ليبيا، وأعلن في أكثر من مناسبة مراهنته على التجربة الجديدة ورموزها الشابة باعتبارهم"أملا ً للأمة"ويذكرونه بشبابه. وكان العقيد القذافي أثيرا ً لدى الثوريين العرب بشعاراته الطنانة، وتفجيره"ثورة شعبية"وانتقاله المباشر إلى تشييد"الديموقراطية المباشرة"بعدما تبين أن بيروقراطية الاتحاد الإشتراكي عاجزة عن الانتقال بالجماهير إلى السلطة الشعبية. ففي 15 نيسان أبريل 1973 ألقى القذافي خطابه الشهير في مدينة زواره غرب ليبيا معلناً الحرب على الدولة الكلاسيكية ذات النمط الرجعي، ومؤذنا ً ب"عصر الانعتاق والتحرر من كل القيود القانونية"، بل وتعطيل القوانين و تطهير البلاد من"المرضى سياسيا ًأعداء الثورة"، و إعلان عصر الثورة الشعبية والثقافية والإدارية. أي باختصار: عصر انهيار كل ما كان قائما ًمن أركان الدولة قبل هذا التاريخ. و في هذا المسعى المنهجي في تدمير الدولة الكلاسيكية القديمة، صاغ العقيد القذافي"الكتاب الأخضر"و"النظرية العالمية الثالثة"مع بداية عام 1977، وشهدت تلك المرحلة تحولات جذرية في اتجاه إلغاء المؤسسات الحكومية بأطرها القانونية والبيروقراطية التقليدية لتحل محلها سلطة الشعب المباشرة. ولد نص إعلان سلطة الشعب على أن"السلطة الشعبية المباشرة هي أساس النظام السياسي في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، فالسلطة للشعب ولا سلطة لسواه، ويمارس الشعب سلطته من طريق المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية والنقابات والاتحادات والروابط المهنية، ومؤتمر الشعب العام، ويحدد القانون نظام عملها". وفي آذار مارس عام 1979، أنشئت اللجان الثورية التي شكلت مفصلاً جديداً في تطور النظام السياسي الليبي نظراً الى تأثيرها الكبير في المجتمع الليبي. واللجان الثورية من الناحية السياسية العملية هي في منزلة حزب شمولي يؤطر الجماهير لخدمة أغراض النظام السياسي الليبي، فضلاً عن أنها تقوم بوظيفة أمنية مثل بقية الأحزاب الشمولية الحاكمة. ففي شباط فبراير 1980، أعلن أن اللجان الثورية ستتولى مسؤوليات جديدة استعداداً للاقتحام النهائي لمجتمع الاستغلال و الديكتاتورية، ومن هذه المسؤوليات التصفية الجسدية لأعداء الثورة في الخارج، وتصفية كل العناصر التي تعرقل عملية التحوّل الثوري، وإقحام الجماهير في تحويل المجتمع البورجوازي الاستهلاكي إلى مجتمع اشتراكي وإنتاجي، وإنشاء محكمة ثورية مكونة من أعضاء في اللجان الثورية يكون قانونها قانون الثورة فقط لا غير. وانطلاقا من ذلك أصبحت اللجان الثورية، بسبب حماستها الشديدة والتزامها الكامل تصورات"الكتاب الأخضر"وتوجهاته، أهم الأدوات الأساسية لدى العقيد القذافي لتعبئة الجماهير الليبية وتوحيدها. غير أن العقيد القذافي الذي التزم الخط الناصري واعتنق العروبة والوحدة العربية مذهبا لليبيا، ثم تبنى لاحقا ً الاشتراكية، انتقل مع بداية عقد التسعينات من خدمة أهداف القومية العربية إلى اعتناق الفضاء الإفريقي، وأخيراً إلى الدوران حول الفلك الأميركي تحت ضغوط شديدة مارستها واشنطن. التحولات في السياسة الخارجية الليبة بيد أن التحول في علاقات ليبيا مع الغرب حصل عندما قبلت طرابلس في تشرين الأول أكتوبر 2002 دفع تعويضات تقدر بنحو 2.7 بليون دولار لأقارب ضحايا طائرة"بانام"الأميركية التي فجرت فوق اسكوتلندا بواقع 10 ملايين دولار عن كل ضحية، وقررت التخلي عن برنامجها في شأن أسلحة الدمار الشامل في كانون الأول ديسمبر 2003، والانضمام إلى معاهدة تدمير الأسلحة الكيماوية في كانون الثاني يناير 2004، وتوقيع بروتوكول إضافي لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية يسمح بالتفتيش المفاجئ في آذار مارس 2004. ومن جانب آخر، استطاعت ليبيا أن تعيد علاقتها مع فرنسا بعدما دفعت 35 مليون دولار تعويضات لضحايا طائرة"يوتا"، ثم وافقت على تعديل اتفاق التعويضات في 9 كانون الثاني يناير 2004، الى 170 مليون دولار. ومذذاك ما انفكت مسيرة عودة ليبيا إلى المجتمع الدولي تسير بخطى متسارعة. وبرر القذافي انعطافته المفاجئة بأنها جاءت نتيجة اقتناعه الشخصي نافيا ً أن يكون قراره نتيجة سقوط النظام العراقي واعتقال صدام حسين المهين. ودعا البلدان التي تملك أسلحة دمار شامل إلى أن تحذو حذو ليبيا لمنع تعرض شعوبها للمآسي، معتبراً أن قراره"سيشدد الخناق على الإسرائيليين"حتى يكشفوا عن أسلحتهم للدمار الشامل! وهنا يمكن أن نحدد مضمون السياسة الخارجية الليبية الجديدة في النقاط الآتية: - تخلي ليبيا عن دعم ما يسمى"الإرهاب"بخاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن الرقم 731 عام 1992، اذأعلنت الجماهيرية في بيان الأمانة وزارة الخارجية أنها: 1- قطعت علاقاتها مع كل المجموعات والمنظمات المتورطة في الإرهاب الدولي في كل صوره وأشكاله. 2- ليست لديها معسكرات لتدريب الإرهابيين وإيوائهم، ودعت لجنة من مجلس الأمن والأمانة العامة للأمم المتحدة أو أي هيئة تابعة للأمم المتحدة الى التحقق من ذلك. 3- لن تسمح باستخدام أراضيها ومواطنيها أو مؤسساتها للقيام بأعمال إرهابية في صورة مباشرة أو غير مباشرة، وتوقيع العقوبات على من يثبت تورطه في مثل هذه الأعمال. 4- تلتزم احترام الخيارات الوطنية وتبني علاقاتها على أسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة. ولم تكتف ليبيا بإصدار هذا البيان بل وضعته موضع التنفيذ. وبدا ذلك في مؤشرات عدة أبرزها إنهاء ليبيا الأزمة حول قطاع أوزو مع تشاد بتحويل القضية الى التحكيم الدولي الذي حكم لمصلحة تشاد عام 1994، كما أوقفت دعم حركات التمرد و النظم"الثورية"في إفريقيا. وتنبغي الاشارة الى أن تخلي ليبيا عن أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن امتلكتها بعد! لا يكفي سبباً لهذا الاندفاع الأميركي - البريطاني نحو التطبيع معها. فالسياسة الأميركية النفعية القائمة على استنفاد موارد الأطراف الأضعف وقدراتها الى أبعد مدى يصعب تصديق قبولها التطبيع مع ليبيا وإدخال تحول جذري في الموقف تجاهها لمجرد إعلان طرابلس وقف مساعيها لبناء قدرات نووية أو تسليم ما لديها من كميات غازات سامة. كما اعتقد مراقبون أن التحول الحاصل في السياسة الليبية جاء نتاج"الصدمة والترويع"اللذين أصيب بهما العالم العربي جرّاء سقوط العراق وسقوط رئيسه صدام حسين، وهو اعتقاد غير محله. اذ ان المسؤولين الليبيين أنفسهم أكدوا ان اتصالاتهم مع الولاياتالمتحدة تعود إلى ما قبل شن الحرب على العراق. وواقع الأمر أن التحولات الليبية التي بدأت قبل سنوات لم تتوقف عند مستوى الخطاب، كما لم تقتصر على وقف الدور الليبي في مساندة بعض التنظيمات أو الحركات السياسية والعسكرية. فهناك مظاهر أخرى لهذا التحول يصعب فصلها عما نشهده حالياً من تحول مقابل في السياسات الأميركية والبريطانية تجاهها، وربما يأتي موقف ليبيا من الوضع العربي على رأس هذه المظاهر. فمعروف أن لواشنطن على وجه الخصوص موقفا ً معاديا ً بوضوح وأحياناً بصراحة للنظام العربي. بالتالي فإن الابتعاد الليبي عن الإطار العربي يصب مباشرة في خانة موالية لواشنطن وسياساتها، سواء كان هذا الأمر مقصوداً أو متفقا ً عليه أم لا. فربما كان التوجه الأفريقي لليبيا نتاجاً تلقائياً لطبيعة شخصية العقيد القذافي بما تحمله من سمات المفاجأة والقرارات غير المتوقعة، أو مجرد جرأة على كسر التابو العربي والثورة على حال الجمود والخنوع العربي العام السائدة منذ سنوات. أي ليس بالضرورة أن تكون الأهداف والنوايا غير طيبة، لكن في النهاية النتيجة واحدة هي أن دولة ما تباشر سياسة تتوافق مباشرة مع مصالح دولة أخرى وأهدافها. من طريق الانضمام الليبي إلى الغرب، تحقق الولاياتالمتحدة نصراً استراتيجياً يوفر لها الوصول إلى حقول النفط الليبية الغنية بالنفط الخفيف ذي النوعية العالية، بعد حقول النفط العراقية. وبعد أكثر من 34 عاما ًعلى احتفاء القذافي بطرد الغرب من القواعد العسكرية في بلاده، ها هو يعود ويفتحها له مجدداً! * كاتب تونسي