قد لا يكون من قبيل المبالغة القول بأن كل معركة تحرر، بل ربما كل نزاع من أي طبيعة كان، احتراب أهلي في وجه من وجوهه أو بهذا المقدار أو ذاك... حرب فيتنام كانت أيضا، كما هو معلوم بديهي، مواجهة بين الفيتناميين وجبهة التحرير الوطني الجزائرية لم تولِ كل عنفها وعنفوانها العسكري إلى قوات الاحتلال الفرنسي بل كرست جزءا منه، حادا شرسا فتاكا، إلى أتباع الزعيم التاريخي للوطنية الجزائرية مصالي الحاج وحزبه"الحركة الوطنية الجزائرية"، ممن لوحقوا بلا هوادة في أرجاء البلاد وفي المهاجر الفرنسية، في مواجهة كان من أبرز وقائعها ما حصل لقرية ملّوزة التي أبيد سكانها، في 1958، عن بكرة أبيهم، على أيدي مجموعة من مقاتلي جبهة التحرير قادها العقيد عميروش، أحد أبطال حرب التحرير... لذلك، لا يعدو الحديث عن الشعب الذي ينتفض ضد المحتل الأجنبي كتلة صماء، موحدة، لا يشوبها خلاف ولا يعتريها انشقاق، أن يكون حديث تعبئة وحشد، ثم في ما بعد وعندما يتحقق النصر، وسيلة ابتزاز تمثيلية حصرية مطلقة يدعيها المنتصر آية تماهٍ تام ناجز مع ذلك الشعب وبرهانا على الأحقية في حكمه، في حين يُركن المعترضون في خانة الخيانة وهامشها وهذا لا"يتسع"فقط، في الحالة الجزائرية مثلا، إلى"الحركيين"الذين آثروا قتال بني جلدتهم في صفوف القوات الفرنسية. من هنا، ليس بدعة غير مسبوقة في تاريخ حركات التحرر ما تشهده الأراضي الفلسطينية هذه الأيام من تناحر يكاد يتفجر اقتتالا أهليا مفتوحا بين حركتي فتح وحماس. لا يقال ذلك من باب التهوين من شأن ما يجري ولا من باب التماس الأعذار له ورفده بأسباب التفهم وب"ظروف التخفيف"كما تقول لغة القضاء. بل ان الهدف غير ذلك تماما، ويتمثل أولا في وضع الأمور في نصابها، من خلال تخليصها من التناول الشعاراتي والعاطفي، وثانيا في السعي إلى استكناه مكمن الخطورة، بل الخطر، الفعليين في الوضع الفلسطيني الحالي، في طوره وبيئته الراهنين، سياسياً واستراتيجياً، وما يرسمانه من حدود أمام العمل الوطني الفلسطيني. بادر الكثيرون في الآونة الأخيرة إلى التنويه بأن المناوشات المسلحة بين الفلسطينيين ليست بالأمر المستجد، ولا شك في أن من عايشوا حقبة"جمهورية الفاكهاني"في بيروت يذكرون جيدا تلك الاشتباكات التي كانت تترى بوتيرة يومية تقريبا، مخلّفة"شهداء"وجرحى، بين مختلف"الفصائل الفلسطينية". لعل ذلك ما كان يعنيه ياسر عرفات، محاولا أن يضفي إيجابية على ظاهرة تعذّر تذليلها، بوصفه"الساحة الفلسطينية"على أنها"ديموقراطية في غابة من البنادق". لن نجادل الزعيم الراحل في ذلك، لكن كل ما يمكن قوله إن الاشتباكات تلك كانت من مظاهر الاحتقان الأهلي الذي ربما حف بكل حركة تحرر وطني، كما سبقت الإشارة. لكن التذكير بتلك الاشتباكات لا يستوفي تلك الظاهرة، إذ أن الاحتقان الأهلي، الذي قد يتفجر عنفا، ربما توسل استراتيجية المزايدة، قولا وفعلا، وهذه تتمثل في خوض المواجهات الأهلية بواسطة العدو، من خلال القيام بما من شأنه استدراج العدو إلى ردود تستهدف الطرف المحلي والأكبر الذي يراد النيل منه، مع احتفاظ تلك الأعمال بصفة المقاومة من ناحية ومع النأي بها عن انتهاك مُحرّم الحرب الأهلية على نحو صريح سافر من ناحية أخرى. وقائع الانتفاضة الثانية، أو انتفاضة الأقصى، ربما قدمت المثال الكلاسيكي على هذا المنحى، حيث كانت حركة حماس تقوم بعملياتها الانتحارية، وهو ما أسماه محمود عباس، منددا، ب"عسكرة الانتفاضة"وكانت إسرائيل ترد بالتدمير المنهجي لمقومات ومؤسسات السلطة، بل الوطنية الفلسطينية أصلا. وهكذا، بدا، خلال تلك الفترة كما لو أن تواطؤا، عفويا وغير إرادي بالتأكيد، قد قام بين الطرفين: من جهة، حماس، التي قد لا ترى نفسها معنية بمصير سلطة نشأت تحت"سقف"اتفاقات أوسلو التي تمقتها أشد المقت وتعتبرها تفريطا، ومن جهة أخرى الدولة العبرية التي سارعت إلى استغلال تلك العمليات لإدراج الوطنية الفلسطينية برمتها في خانة الإرهاب ولتقويضها من أساسها، شرطا لفرض حلولها الأحادية الجانب. وبطبيعة الحال، لا يُقال ذلك من باب الطعن في وطنية حركة حماس أو التشكيك في دوافع مقاومتها، ولكن يبقى، على أية حال، أن ذلك ما حصل وذلك ما أدى إليه منطق الأحداث ومسارها، بعد أن تكفل فساد سلطة فتح أو عدد من رجالها بتقويض نفوذها المعنوي بين الفلسطينيين. وما يُخشى الآن هو أن يصبح الاحتقان الأهلي هو الطاغي، بعد أن كان بعدا ضمنيا أو هامشيا قياسا إلى متن الوطنية الفلسطينية، وأن لا يبقى من عنف إلا ذلك الذي يتبادله الفلسطينيون. هناك عامل أساسي قد يساعد على فرض هذا المنحى إن لم تقابله النخب الفلسطينية بالحنكة وباليقظة الكفيلتين بدرء مخاطره، وهو أن الدولة العبرية قد استكملت أو هي بصدد استكمال"فك اشتباكها"مع الفلسطينيين، من خلال خطواتها الأحادية الجانب، من الانسحاب من غزة إلى إقامة الجدار العازل إلى تحصين المستوطنات التي ضمتها إلى ما سوى ذلك الكثير، وصولا، أقله حسب آمالها، إلى إنهاء احتمالات المواجهات والعنف بينها وبين الفلسطينيين، مع احتفاظها بما احتله وما اغتصبته، ومع اتقاء مغبة ارتياد طريق التسوية، وما تفترضه من إقرار بالوطنية الفلسطينية. وإذا ما تحقق ذلك، وفي الأفق نُذر تدل على إمكانية تحقيقه، فقد تتحول الأراضي الفلسطينية إلى مرجل يعتمل فيه عنف داخلي البعد أساسا أو حصرا، موجه إلى الأقربين، دون واسطة هذه المرة، فتتحول"فصائل"الوطنية الفلسطينية من الصراع من أجل الوطن إلى التنازع حوله أو ما تبقى منه وما تيسر من سلطة عليه... وفي المواجهة الجارية بين فتح وحماس، وفي مبادرة هذه الأخيرة إلى إنشاء قوة مسلحة خاصة بها، توازي بقية الأجهزة وتتجاوز إرادة الرئيس محمود عباس، فتحيله عمليا إلى موقع رئيس لفصيل لا لسائر الفلسطينيين، ما ينذر بذلك إنذارا بليغا...