هل يورث الانسحاب الإسرائيلي من غزة اقتتالاً أهلياً فلسطينياً؟ يكاد طرح هذا السؤال، بهذه الصيغة وفي هذا التوقيت، أي بعد ما شهدته الآونة الأخيرة من اشتباكات شبه يومية، بين مقاتلي حركة حماس وقوات السلطة الوطنية، يبدو نافلاً، أو هو يعمد، على سبيل الرّقية، إلى إنكار أمر واقع. فالاقتتال ذاك حصل وحُمّ قضاؤه، وتواجه الفلسطينيون في ما بينهم فأوقعوا قتلى وجرحى، ويُخشى أن تستمر مواجهاتهم وأن تستفحل، وأن يتمادى شأنهم على منوال ما بات معلوما مألوفا هذه الأيام رغم قِصر العهد: سلسلة هدنات متتالية، ما إن يتم إقرار إحداها، حتى يُصار إلى انتهاكها. وبذلك، يكون أرييل شارون قد حقق ما يشبه المعجزة. وهذه لا تتمثل في تخطي الفلسطينيين لما اعتُبر حتى الآن"خطّاً أحمر"، التزموه حتى الآن وتقيدوا به، يحظر احترابهم، فذلك ضرب من مثالية قد لا يتسع لها التاريخ الفعلي لحركات التحرر، بل في أن رئيس حكومة الدولة العبرية تمكن من جعل الخلاف على فكرة التسوية، أو اللاتسوية بالأحرى وعلى الأصحّ، وحول ما إذا كان الانسحاب من غزة نهاية مطافها أم منطلقها، شأناً فلسطينياً لا يعنيه أو لا يكاد يعنيه، هذا عدا إحرازه، فقط لمجرد بروز عتاة المستوطنين على يمينه، صفة الاعتدال والوسطية، على ما بات يقول حتى بعض إسرائيليين كانوا، وربما لا زالوا في اعتقادهم، من دعاة الحل السلمي، وعلى ما ردد وروّج من ورائهم، على سبيل المثال لا الحصر، الأميركي توماس فريدمان وهذا يبدو، في رأيي المتواضع، محللاً سطحياً لست أدري سر افتتان الصحافة العربية به وبكتاباته. أما عن الاحتراب الأهلي، فهو قد يكون من"طبيعة الأشياء"، بمعنى من المعاني، أو شراً لا بد منه أو يصعب اتقاؤه، لم تكد تخلو منه حركة تحرر. حتى الثورة الجزائرية، تلك التي تتبوأ مرتبة النموذج والمثال في المجال العربي والإسلامي، لم تكن إجماعاً وطنياً صلداً أصمّ إلا وفق رواية لتاريخها مُؤمثلة أو مؤسطرة، أما تاريخها الواقعي فغير ذلك، إذ كانت حربا تحررية بقدر ما كانت حرباً أهلية ضروساً، تواجهت خلالها، في الوطن كما في المهاجر الفرنسية، جبهة التحرير الوطني مع"الحركة الوطنية الجزائرية"، حزب مصالي الحاج، الذي يُعد الأب التاريخي، أو أحد الآباء التاريخيين، للوطنية الجزائرية، هذا عدا عن الصراعات الدامية دخل جبهة التحرير ذاتها. وقس على ذلك حركات تحرر كثيرة. مثل ذلك الاقتتال كان في الغالب ينشب أو يستعر عندما تجد حركات التحرر نفسها أمام خيارات لا بد من ترجيح أحدها وحسمه من خلال استحداث ميزان للقوة داخلي جديد، كأن تكون هناك تسوية في الأفق يقبل بها البعض ويرفضها البعض الآخر أو يعتبرها دون المطلوب. وبديهي أن الوضع هذا لا ينطبق على الوطنية الفلسطينية في طورها الراهن. إسرائيل ستنسحب من غزة في كل الأحول، لأسباب ترتئيها ولعوامل تخصها كنا نتمنى لو أن الانتفاضة الثانية هي التي دفعتها إلى ذلك دفعا كما يقول البعض!، وهي لا تُدرج انسحابها ذاك ضمن منظور تسووي، وذلك ما يفسر إصرارها على استبعاد كل تنسيق مع الجانب الفلسطيني عدا ما كان أمنياً أو إجرائياً، بل هي تدرج انسحابها ضمن مشروعها الخاص لپ"الحل النهائي"، وهو مشروع لا يأخذ البتة المطالب الفلسطينية في الاعتبار، ويتمثل أحادياً في اقتطاع ما تريد اقتطاعه من أرض، لاستكمال الكيان الإسرائيلي، مجالاً حيوياً آمناً. علامَ يختلف الفلسطينيون إذاً؟ محمود عباس، من جهته، لا يراهن إلا على افتراض مفاده أن ظهوره بمظهر المسيطر على زمام الأمور في غزة، ومساهمته في تسهيل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، من شأنه أن يؤهله لمنزلة"الشريك"، وهو افتراض لا يستند إلى أساس، بالنظر إلى ما هو معلوم من شأن ميزان القوة، ومن تواطؤ واشنطن مع تل أبيب ومن عجز الأوروبيين والعرب. أما حماس، وعدا عن رغبتها في إظهار الانسحاب الإسرائيلي اندحارا أثمرته المقاومة لا رحيلاً طوعياً، فتخشى وتتخوف على مصيرها. فإذا كانت التهدئة لم تحمها من بطش الدولة العبرية، تلاحقها وتغتال كوادرها، فكيف سيكون الأمر بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، تلك التي ستبقى طليقة اليد في القطاع، تعود إليه متى أرادت، متخففة من هاجس حماية المستوطنات؟ هذا ناهيك عن اشتباه حماس في وجود نية باستبعادها وإزالة وجودها السياسي، رأت في تأجيل الانتخابات ما ينذر بها، كما عبّر عن تلك الرغبة شارون وكذلك فعلت الإدارة الأميركية. لكل ذلك، ليس أمام المرء إلا"تعليق الحكم". فالسلطة الوطنية قد تكون محقة في سعيها إلى أن تضطلع بدورها ممثلاً وحيداً للكيان الفلسطيني، تنفرد بالنطق باسمه، وبوضع استراتيجيات التفاوض والحرب والسلام، شأنها في ذلك شأن كل سلطة. لكن هواجس حماس قد تكون مفهومة أيضا، إن هي لم تطمئن إلى سلطة تعلم أنها من الهشاشة، ومن الافتقار إلى السيادة بحيث لا تستطيع حمايتها وحماية التعددية الفلسطينية عموماً بوصفها مكوناً من مكونات النسيج الوطني الفلسطيني، بصرف النظر عن كل رأي في إيديولوجيتها وفي أفعالها. من عوامل هذا الإشكال، عدا عن كل ما سبقت الإشارة إليه، وضعية الوطنية الفلسطينية، ممثلة في حركة فتح على نحو خاص، التي أصبحت سلطة، يُطلب منها ما يُطلب من الدول وتُحاسب كما تُحاسب الدول، قبل أن تنال الدولة وما يلازمها من سيادة، ما يمثل التباسا يستفيد منه شارون إلى أبعد الحدود، ويؤثر في فعالية السلطة في تعاطيها مع مختلف القوى الفلسطينية. وبديهي أن الاقتتال الأهلي يمثل عرضاً من أعراض ذلك الإشكال والمأزق الفلسطيني عموماً، ولا يستوي بحال من الأحوال حلا كما يتوهم المتقاتلون.