الكلمات كانت واضحة. والجمل قصيرة. لكن هارولد فيرميس الحائز نوبل الطب 1989 ابتسم ابتسامة من تعاطى طويلاً مع الإعلام. فضّل الصمت قليلاً قبل ان يشرع في الاجابة عن سؤال:"ماذا قالت لك آثار الإسكندرية... تلك بقايا من حضارات كانت هائلة ومتطورة في زمانها وامتدت عبر القارات، ونراها الآن مجرد حطام وبقايا، فماذا قالت لك"؟. صباح هذا النهار نفسه زار فيرميس متحف الاسكندرية القومي وفيه آثار فرعونية وهلنستية وقبطية وإسلامية وحديثة. بعد انتهاء جولته مع حائزين على نوبل الطب استضافتهم"مكتبة الإسكندرية"أخيراً في سياق مؤتمر علمي "بيوفيجن 2006"، وجد السؤال عما قالته الإسكندرية ينتظره في قاعة الاجتماعات في الطابق الأرضي. ماذا تقول مدينة الاسكندر ومنارتها الأسطورية لأميركي يقف على قمة العلم والعالم راهناً، عندما يتفحص آثار من وقفوا على قمة الحضارة في أوقات غابرة؟ وشى تأخره بالإجابة، إضافة إلى الحمرة التي اندفعت إلى وجهه، ببعض الارتباك. ثم تكلم:"حسناً. لا أدري إذا كان بوسعي الرد على سؤال كهذا. نحن في أميركا لدينا آثار، لكنها ليست بعيدة الغور في الزمن كآثار الفراعنة أو الرومان. لعله الإحساس بأن الزمن هائل وشديد الامتداد. ربما هو إحساس بضرورة التواضع أمام الزمن. أعتقد ان ذلك ما أحسست به في الاسكندرية اليوم". بدا الطبيب الاميركي مرتبكاً أمام زمن سحيق يصعب تفادي رائحة مكوثه في هذا الثغر البحري. لم يرتبك السائق محمد بعدئذٍ أثناء الحديث عن أبرز ما شهدته الاسكندرية أخيراً:"انه سامي يوسف... في الأيام الماضية استقل هذا التاكسي أشخاص كُثر مهمون"ولا مؤاخذة"... مرّ الممثل هاني رمزي بنكاته السياسية، والممثل محمد سعد بمزاحه الدائم، وعصام الحضري حارس مرمى النادي الأهلي ببساطته ومزاجيته..."بس ما فيش حاجة زي سامي يوسف"... كان من الصعب توصيله من فندق"سيشيل"، على الكورنيش البحري، إلى أي مكان في البلد..."كانت الاوتوبيسات بتاعة الحكومة بتكسر علينا، اوتوبيسين او ثلاثة، وينزل اللي فيها كلهم يسلموا على سامي يوسف ويصوره بالكاميرا والموبايل... والبنات كانت بتسلّم على مراته الألمانية أيضاً". وزوجة سامي يوسف مُنقبة، مش يعني حجاب عادي زي بناتنا. ماذا قالت الاسكندرية لسامي يوسف؟ ماذا قالت للاسكندر وكليوباترا وبطليموس وأنطونيو ولورنس داريل ومحمد علي وقايتباي وكفافي، ففتنوا بها وارتبطوا بذاكرتها؟ في"كوم الشقافة"حي شعبي آثار. تصل التاكسيات والباصات السياحية الفارهة إلى قطعة أرض تتباعد فيها بعض الاشجار ونباتات بزهور قليلة بين الآثار. الساحة غير مسورة جيداً. أعشاب دغلية وأشواك. النواويس بعضها من الحقبة الهلنستية. ثمة أماكن في الساحة تبدو مهملة. وفي بطن الارض، مقابر فخمة، لقياصرة جاؤوا من اوروبا الى تلك المدينة. تتجمع النواويس أسفل ما يُشبه بئراً. تنتمي الى مخيلة قديمة، صعب أن نستوعبها كما هو صعب ان نتخيل هذا الكوكب الأزرق بعد ألف عام. أبعدها عن باطن الارض يحمل اسم"كاتا كومب"القبر الأعلى شأناً. ويبدو واضحاً في النقوش أثر الفراعنة الذين بادوا قبل الاسكندر وورثته بكثير. تحوّل النسر المفرود الجناحين الرمز الذي يتكرر في الآثار الرومانية على امتداد أوروبا، إلى ما يشبه نقش"رع": الإله - الشمس عند الفراعنة. حدث ذلك في زمن نفترض اننا نعرفه، على رغم زوال مكتبة الاسكندرية الاسطورية التي يُفترض أيضاً انها احتوت على الكثير من وثائقه. أي وثائق ستعثر عليها حضارات المستقبل عن أزمنتنا؟ قرص مدمج قابل للقراءة، أم روبوت متطور ناطق حُفظت في ذاكرته ملفات رقمية عن... القرن ال20 أو ال21 أو ال22 أو غيره؟ في أي قرن قد تبيد الحضارة الراهنة؟ كيف؟ ماذا يبقى منها؟ في الاسكندرية القرن ال21، خارج الآثار التي يهيمن عليها الموت، يسكن بشر في أحياء فقيرة."كوم الشقافة"حي شعبي يهيمن عليه شظف العيش. يتصل بحي العطّارين الذي يبقى حياً فقيراً على رغم شهرة أغنية"يا مصطفى يا مصطفى... سبع سنين في العطارين". قرب آثار"كوم الشقافة"تنتصب سقالات، يكثر عددها كلما اقتربت من مدينة الموتى الراقدين في بئر تحت الأرض. يشرح سائق التاكسي ان"الحكومة لم ترض ان يبقى منظر المنازل الفقيرة على حاله، يعني علشان السياحة والسواح ما ياخدوش صورة غلط عن البلد... قررت الحكومة ترميم واجهة المنازل على حسابها لتصبح لائقة بالسياحة". ماذا تقول الاسكندرية للأحياء القاطنين في تلك المنازل؟ ماذا يتغيّر من عيشهم غير الواجهة الخارجية للبيوت؟ كيف تبدو بطون بيوت الأحياء؟ قبل ان تصل الى"كوم الشقافة"، من ناحية جامع المرسي ابو العباس ومسجد البوصيري، هناك"عمود السواري"، وهو مسلة متوسطة الارتفاع، في حي شعبي أيضاً. اسمه عمود بطليموس أيضاً. واضح كم قلّد الرومان الأحياء، حينها، الفراعنة الأموات! مسلة بطليموس لا تُقارن بالمسلات الفرعونية الهائلة، تلك التي أغوت الانكليز، إبان احتلالهم مصر، فسرقوها بلا عناء، وأحياناً تكلفوا لذلك بعض المبررات. فمثلاً، تنتصب في ساحة"الطرف الاغر"في لندن مسلة كُتب على قاعدتها انها قُبلت كهدية. هل تظهر بعض الآثار المنهوبة من العراق في بلد ما، ويُكتب في قاعدتها انها قُدّمت كهدية؟ قبل الوصول إلى"عمود السواري"وأيضاً من ناحية البحر نجد مقابر واسعة. يُذكر الفقر المُحيط بالمقابر بأشياء. تندفع إلى المخيلة صور من أفلام مصرية وبرامج تلفزيونية عن ظاهرة سكان المقابر. يُصبح ما تقوله الاسكندرية شديد الكثافة إلى حد يجعل الرأس ثقيلاً والقلب كأنه حجر يغور في ماء الصدر. كأن المدينة تتحدث طوال الوقت. هنا سوق شعبي يحتل مكاناً وسطاً في القوس الواسع الذي ترسمه المدينة مع البحر الأبيض المتوسط. نصب الجندي المجهول يحجب ساحة السوق عن البحر. في سوق المنشية بُسط وعربات تتجاور مع دكاكين متواضعة تكتظ بالناس. ماذا يقول سوق المنشية بروائحه العابقة، إذا تذكر الزائر أن تأميم قناة السويس 1956 قبل نصف قرن بالضبط أُعلن من هناا مؤتمر"بيوفيجن"وطال عيد العمال 2006، الذي شهد تأميماً"غرائبياً"في عصر العولمة: تأميم النفط في بوليفيا. بعض الصحف العربية استعاد بالمناسبة التأميم الناصري متذكراً غيفارا، الذي كان من أصدقاء ناصر، ولقي مصرعه في بوليفيا. كيف سمع سوق المنشية من تلفزيونات دكاكينه ومقاهيه خبر التأميم البوليفي؟ 50 سنة على تأميم القناة. أقصر من رمشة عين في ذاكرة الاسكندرية.