وقف الضيف الألماني الذي زارنا قبل خمس سنوات مندهشاً أمام جمال منطقة جبال الشعرة الواقعة شرق قرية بسين في منطقة القرداحة - محافظة اللاذقية. وما أعجبه في شكل خاص عذرية الغابة وتنوع الأشجار والأعشاب التي تغطيها. ويبرز من بينها السنديان والبلوط والغار والدلب والصنوبر والزعتر والبنفسج والنرجس والمرتكوش. ويبدو أن إعجاب الضيف لم يدفعه فقط إلى أخذ مئات الصور حينها وإنما إلى السؤال دائماً عن حال"اجمل غابة بين برلين وبسين"في رأيه. وعندما سألني قبل أسابيع عنها أجبته بصوت حزين أنها تتعرض حالياً للتخريب من خلال قطع غير شرعي وشبه منظم لأشجارها الباسقة والنادرة. أما الهدف من هذا القطع فهو تفحيمها أو تحويل خشبها إلى فحم من أجل المشاوي وأراكيل المقاهي. ويقوم بعمليات القطع والتفحيم هذه شباب مجهزو بمناشير آلية قادرة على حصد الأخضر واليابس. أما دافعهم الرئيسي إلى ذلك فهو سب لقمة العيش والجشع في ظل معاناتهم من الفقر والبطالة. يقول الشاب ز. م.:"نحن عائلة مؤلفة من ستة أشخاص لم يكن لدينا مصدر رزق يستر أحوالنا قبل العمل في الفحم". ويضيف:"منذ ثلاث سنوات أعمل مع أخي في قطع الأشجار وتفحيم خشبها قبل بيعه إلى تجار يأتون من المدن القريبة."ويوفر هذا العمل دخلاً جيداً لزهير وأمثاله مثل س. ج. وح. ل. وس. ح. ويُقدر هذا الدخل بحدود 20 ألف ليرة سورية شهرياً لكل شخص من هؤلاء. ويبدو أن ارتفاعه بالمقاييس السورية دفع حتى موظفي الاحراج الذين ينبغي عليهم الحفاظ على الغابة إلى مشاركة الفحامين في تخريب غابات منطقة الشعرة ولو في شكل غير مباشر. وهم يقومون بذلك من خلال تغاضيهم عن عمليات قطع الأشجار وإشعال المشاحر من أجل القيام بعمليات التفحيم مقابل حصولهم على نصيب من أرباح العابثين بالغابة. يقول الموظف ج. س. 28 عاماً بسخرية:"لدي أربعة أولاد وراتبي لا يتعدى خمسة آلاف ليرة غير كافية لسد رمقهم، فلماذا لا أقوم بتحسين دخلي من أجل مستقبل أولادي؟". وعندما قلت له أن مستقبل الأولاد مرتبط بمدى حفاظنا على بيئتنا وغطائها الخضر الذي يمنع التصحر ويحد من التغيرات المناخية الخطيرة، ضحك مطولاً وقال:"من أين أتيت بهذا الكلام الذي اسمع به للمرة الأولى؟"وتابع:"هل تعرفين أن قطع الأشجار ليس مشكلة لأن الغطاء النباتي ينمو بسرعة في هذه المناطق". غير أن جميل وزملاءه والفحامين ينسون أن تعويض الأشجار المقطوعة يتطلب عشرات السنين. كما ينسون الأضرار الصحية التي تصيب الناس بسبب التلوث الناتج بالدرجة الأولى من دخان ثاني أكسيد الكربون الذي تنشره مشاحر التفحيم في المنطقة بحسب ما تقوله الدكتورة رهف م. التي تضيف:"اكثر الناس تضرراً هم الأطفال إذ لوحظ إصابة المزيد منهم بمرض الربو خلال السنوات القليلة الماضية". ويرى المهندس الزراعي طارق أ. أن الأضرار تلحق أذى كبيراً بالثروة الحيوانية البرية كذلك. فمنطقة الشعرة المشهورة بالشحرور والحجل والعصافير والغزلان والأرانب وغيرها بدأت تعاني من هجرتها إلى أماكن أخرى. ويبدو أن أهمية الحفاظ على البيئة وغطائها الأخضر والحيوي لحياتنا مسألة أقل من ثانوية لدى زملاء جميل والفحامين كذلك. ويعود السبب في ذلك إلى أن ما يشغلهم هو لقمة العيش وليس حماية الشجرة."البيئة يا أختي مسألة كمالية تأتي أهميتها بعد توفير لقمة العيش"يقول موظف الاحراج فيقول:"نحن لسنا في أوروبا كي نهتم بالغابات لأن المطلوب أولاً توفير فرص العمل وضمان مصدر الرزق". لكن س. س. لا يعتقد أن توفير الوظائف للشباب سيؤدي إلى توقف الاعتداء على الغابة لأن الرواتب متدنية مقارنة بالدخل المتأتي من العمل في الفحم. مديرية زراعة اللاذقية بدورها تحاول من فترة الى أخرى تشديد الرقابة على عمليات الاعتداء على الغابة من خلال إرسال المزيد من عناصر الشرطة الحراجية. غير أن مفعول ذلك يتوقف مع عودة الدوريات إلى مركز عملها ومع حلول الليل عندما يشتد بطش الفحامين بالغابة. وقد اتصلنا بالمديرية لمعرفة المزيد بهذا الخصوص من دون جدوى لأنهم غير مخولين بتصريحات صحافية بحسب ما ذكر لنا موظف الاستعلامات. فهذا الأمر من اختصاص وزارة الزراعة في دمشق بحسب قوله. وفي الوقت الذي يستمر قطع غابات منطقة الشعرة وما يسببه من مشاكل صحية للناس وللثروة الحيوانية ليس هناك من حل نهائي يلوح في الأفق حالياً على ما يبدو. غير أن هناك إمكانات للتخفيف من حدة المشكلة من طريق مساعدة شباب المنطقة على إيجاد فرص عمل لا سيما بفضل المبادرات الفردية. ويمكن على سبيل المثال دعم هذه المبادرات من خلال زيادة نسبة القروض التي تقدمهما هيئة مكافحة البطالة السورية لهم بغية مساعدتهم على القيام بمشاريع زراعية وسياحية وخدمية متنوعة. وبذلك يمكن إعادة دور الزراعة إلى المنطقة المذكورة كما كان عليه الحال أيام زمان بحسب ما يقوله أسعد م. ابن التسعين عاماً."يومها كنا نزرع القمح والشعير والحمص والعدس والذرة ونربي النحل والأبقار والغنم ونصنع الجبن بدلاً من قطع الأشجار وتخريب مقومات حياتنا"، يضيف أسعد بحسرة. وأخيراً ربما يسمع المسؤولون عن قطاع الاحراج في اللاذقية حسرات أسعد فيبادروا إلى إيجاد حلول سريعة لإنقاذ"أجمل غابة بين بسين وبرلين"قبل فوات الأوان.