ضمن النقاش المتصاعد عالمياً في علاقة العلوم والتكنولوجيا بالتنمية في العالم الثالث، يأتي كتاب "نحو مستقبل أفضل، إستراتيجية لبناء قدرات العلم والتكنولوجيا على الصعيد العالمي"، الذي تُرجم بمبادرة مشتركة بين"مكتبة الاسكندرية"و"المركز القومي للترجمة"و"مجلس الأكاديميات العالمي". حرّر الترجمة العربية الزميل محسن يوسف وإستغرق إعداده بلغته الأصلية جهوداً استمرت سنتين. فقد وضعته مجموعة خبراء"مجلس الأكاديميات العالمي". ويحمل بالانكليزية اسم Inventing a better future، A strategy for building worldwide capacities in science and technology . وأورد فيه هؤلاء الخبراء رؤيتهم في قدرة دول العالم الثالث على تطوير قدراتها العلمية، وخصوصاً في مجال المعلوماتية والاتصالات المتطورة والبيولوجيا، للخروج من دائرة التخلف، وبالتالي الدخول الى مرحلة من التنمية التي تخدم التطوّر الحضاري للشعوب النامية ودولها. وتُذكّر تلك الموضوعات بما ورد، قبل نحو عقدين، في كتاب"التحدي العالمي"1980 Defi Mondial Le ، الذي أعدّه الكاتب الفرنسي جان جاك سرفان شرايبير، وصدر عن"المؤسسة العربية للدراسات والنشر"بترجمة الزميلين ابراهيم العريس والياس سحاب. العلوم كأداة في كسر حلقة التخلّف قدّم للكتاب، الذي يقع في 212 صفحة، مدير مكتبة الإسكندرية الدكتور إسماعيل سراج الدين. وأورد رأياً مفاده أن التقرير يؤكد أن الاستقرار السياسي ومدى الالتزام بين القادة المحليين وتوافر النظم الإدارية المناسبة والحرية الفكرية، تعتبر من الأمور الأساسية التي تساعد في الحصول على المعرفة وضرورة العمل على تشجيع الاستراتيجيات التي تهدف إلى النقد الموضوعي والتي يمكن أن تسفر عن مبادرات جديدة في مجال العلوم والتكنولوجيا. يتكوّن كتاب"نحو مستقبل أفضل"من سبعة فصول تتناول مختلف قضايا العلم والتكنولوجيا عالمياً. يتصدى الفصل الأول، وعنوانه"الحاجة الملحة إلى تعزيز القدرة في مجال العلم والتكنولوجيا"، للمتغيّرات المتسارعة عالمياً في العلوم. إذ يتسارع تراكم المعرفة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية بسرعة الضوء، بمساعدة علوم الكمبيوتر والاتصالات المتطورة. ومع ذلك يكشف الواقع العالمي عن فشل وصول كثير من الابتكارات إلى من يحتاجونها بشدة، كما يتباين تقسيم الفوائد من العلوم بين شعوب الارض. ولم تلق الحاجة الى بناء القدرة في مجال العلم والتكنولوجيا، بوصفها المُحرّك الذي يقود التطور، اهتماماً كافياً من المجتمع الدولي. وتُمثّل قضية تصحيح هذا الإغفال تحديّاً جوهرياً بالنسبة الى العالم الثالث. ولذا، يشير هذا الفصل الى الفجوة المتعاظمة بإطراد بين الدول التي تملك وتلك التي لا تملك. ويؤول الأمر الى زيادة متسارعة دوماً للتخلف في الدول النامية. ومن المُرجح أن يزداد اتساع هذه"الفجوة الحضارية"مع استمرار سيطرة الدول الصناعية على أدوات العلم والاختراع، وبالتالي تقدمها الهائل في ميدان البحث والتطوير. وينصح الفصل عينه بضرورة الالتفات الى القدرات المحلية علمياً، كمقدمة للاستفادة الفعلية من المسار العلمي والتقني. كما يهتم بدور الجامعات في الدول النامية، باعتبارها من أدوات تحديث المجتمع وتعزيز قيم العلم، والتوسّط بين مجالي السياسة والصناعة في الدولة. وكذلك يشير إلى أن البنية الراهنة لنظم التعليم العالي في كثير من البلدان النامية، غير مناسبة لتلبية تحديات القرن 21. العلم كثقافة وإستثمار يُنبّه الكتاب إلى أن العلم يمثّل ثقافة عالمية، ويولّد تياراً ثقافياً يؤثر ايجاباً في المجتمعات، بما فيها تلك التي دمرها الفقر والجوع أولاً، ثم مزقتها النزاعات الأهلية والأزمات المالية والديون المتأتية من النهب الإستعماري المديد لمواردها الاساسية. ويشير إلى أن الاستثمار في البحث يرتبط في شكل عام بتحسين الناتج المحلي. إذ أن دول الصناعة ذات الدخل المرتفع تنفق ما يتراوح ما بين 1.5و 3.8 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على البحوث العلمية. ويتناول مسألة توظيف العلوم في الزراعة والهندسة والصحة والعلوم الاجتماعية، إذ يستطيع علماء الاقتصاد والاجتماع والانثربولوجيا والعلوم السياسية والإدارة العامة وغيرهم، تطوير ثقافة العلم والتكنولوجيا، والمساهمة في ترسيخها إجتماعياً. ويختتم الفصل الأول بتوصية تُشدّد على ان العلوم والتكنولوجيا في البلدان النامية، تمثل ضرورة مطلقة، للوصول بتلك الدول الى وضع الشراكة الفعلية في الاقتصاد العالمي. ويتطلب هذا الأمر انخراط جميع الفاعلين المعنيين، بدءاً من الحكومات الوطنية ومروراً بالحكومات المحلية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمنظمات الدولية والإقليمية ومجتمعات العلم والتكنولوجيا ووسائل الإعلام وغيرها. المسؤولية العلمية للمجتمعات المُتخلّفة تسير فصول الكتاب الستة الباقية على غرار الأول منها. وتوضح مسائل من نوع علاقة العلم والتكنولوجيا بالمجتمعات، وخصوصاً المتخلفة منها. وتورد تقويماً لمجموعة من الاستراتيجيات الوطنية في هذا المجال. وتشير إلى أن حاجة دول العالم الثالث إلى إطار وطني متماسك يضم الأعمال التي تؤثر في شكل مباشر في تعزيز العلوم. وتفترض أن تصوغ تلك الحكومات استراتيجيات مناسبة، بالتشاور مع الأكاديميات العلمية. وتوضح أن المشورة العلمية المستقلة تحسّن صنع القرار في مجال السياسة العامة. فمثلاً، يمكن زيادة فعالية البرامج الحكومية إذا خضعت لمراجعة مستقلة من جانب خبراء. ويجدر بتلك الحكومات إنشاء آليات محلية موثوقة بها للحصول على المشورة في المسائل العلمية والتكنولوجية المرتبطة بالسياسات والبرامج والمفاوضات الدولية. وكذلك ينبّه كتاب"نحو مستقبل أفضل"الى أن الجمهور يحتاج إلى تشرب المعرفة الجديدة. ويُشدد على أهمية شبكة الانترنت في استمرارية التواصل بين علماء العالم. ويناقش مفهوم التوسّع في الموارد البشرية، مُنبّهاً الى ضرورة صوغ سياسات تعليمية تتناول الحاجات الوطنية، وتغرس وعياً بالمسئووليات العالمية في مجالات مثل البيئة وصحة الإنسان والاستخدام الرشيد لموارد الأرض وغيرها. وينبغي أن تحرص تلك السياسات على تحديث التعليم في المستويات الابتدائية والثانوية في المدارس. كما ينبغي أن تخصص كل حكومة بعض الموارد لتوفير التدريب الراقي لمُدَرّسي العلوم والتكنولوجيا في كل مؤسسات التعليم العالي، بما فيها الجامعات. ولذا، يشدد الكتاب على أهمية المكتبات الرقمية، خصوصاً ان علماء البلدان النامية يمتلكون قدرات محدودة للوصول إلى المستجدات العلمية المُتسارعة. ويشمل هذا الامر توفير نسخ رقمية من الدوريات العلمية المختلفة، وتشجيع المطبوعات العالمية على بث مقالاتها عبر الانترنت، وتوفير بوابات الكترونية لتقاسم المعلومات العلمية وغيرها. وينصح بإنشاء مؤسسات بحثية عالمية، مع التشديد على ضرورة بناء مراكز محلية متألقة علمياً، بحيث تكفل تحفيز الابتكار وتدفق التكنولوجيا ونقلها من العالم المتقدم الى الدول النامية. ويناقش الأطر القانونية التي تعزز نجاح التفاعل بين القطاعين العام والخاص، ليستمر القطاع الخاص في تطوير القدرات التكنولوجية، فيما تُوفّر الحكومة الاطر التنظيمية الملائمة. ويلفت الى إحتمال تداخل الأدوار بين القطاعين، ما يوجب صوغ إطار للتعامل بينهما. ويؤكد ان تلك الشراكة تنعش التعليم، وتُحفّز الأبحاث المتصلة بقوى السوق من جهة، وبالحاجات الاجتماعية من جهة ثانية. وكذلك يُبرز أهمية التنسيق المستمر بين الحكومات والصناعيين والجامعات والمعاهد البحثية في البلدان النامية. وينصح بأن تلعب الحكومة دوراً محورياً في عمليات الشراكة تلك، ليتأكد المختلفون من عدم طغيان مصالح الشركات على المؤسسات العامة. إبحث عن...المال! يتناول الكتاب مسألة تمويل جهود البحث والتدريب. ويورد بعض الأفكار المبتكرة في هذا المجال، مثل إعادة توجيه بعض ضرائب الشركات إلى صناديق خاصة لتمويل البحوث، وخصوصاً تلك التي تحمل أهمية اقتصادية للدولة. ويشير إلى أن هذا التمويل يتطلب التزاماً حكومياً، إضافة الى إنشاء صندوق تمويل عالمي لبناء قدرات العلم والتكنولوجيا في البلدان النامية. ويمكن للممولين العالميين اعطاء فترات سماح تتراوح ما بين خمس وعشر سنوات، على أن تضخ الأموال في شكل رشيد لنحو عشرين مركزاً علمياً وطنياً متألقاً في العالم الثالث. ينتهي الكتاب الى وضع مجموعة من جداول الأعمال التي تعطي الفرصة لجميع الأطراف بأن يكونوا فاعلين في مجال العلم والتكنولوجيا للدول المتقدمة والنامية بالإضافة إلى جداول أخرى لوكالات الأممالمتحدة والمنظمات الإقليمية مثل مساعدة البلدان النامية على تحديد الأهداف والأولويات الوطنية في مجال العلم والتكنولوجيا ودعم جهود البحث والتطوير في البلدان النامية التي تهدف إلى تناول الحاجات المحلية والعالمية ومساعدة البلدان النامية على توفير المعلومات حول موارد وقضايا العلم والتكنولوجيا للجمهور. كما يتضمن جدول أعمال لمنظمات المساعدة التنموية الدولية، والهيئات المانحة، إضافة إلى القطاعين العام والخاص. ويختتم كتاب"نحو مستقبل أفضل"بالتنويه بأهمية الهيئات الإعلامية التي يجب أن تضطلع بالجزء الأكبر من مسؤولية تعريف الجماهير بالقضايا المتعلقة بالعلم والتكنولوجيا، واستخدام الإعلام الالكتروني، وشرح سبل الحصول على المعلومات المتعلقة بقضايا العلوم والتكنولوجيا.