"هزة أرضية" . هكذا وصفت صحيفة"هآرتس"الاسرائيلية نتائج الانتخابات التشريعية الاسرائيلية الأخيرة. واذا كانت النتائج لا تشكل في حد ذاتها هزة أو زلزالا، الا أن وضعها في السياق العام للتطورات، سواء في اسرائيل أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومقارنتها بنتائج الانتخابات التي جرت عام 2003، تؤكد أن زلزالا سياسيا حصل، اذ تلاشت أحزاب ونهضت أخرى، فيما شارفت أحزاب على الانهيار. وقبل التطرق الى النتائج تنبغي الاشارة الى الأجواء التي أجريت فيها الانتخابات الأخيرة مبكرا عن موعدها، وذلك نتيجة ثلاث هزات اسرائيلية في الربع الأخير من العام الماضي، تمثلت في نجاح أرييل شارون في تنفيذ خطة الانسحاب الأحادية من قطاع غزة على رغم معارضة اليمين الاسرائيلي. وبعد تنفيذها بأقل الخسائر بدت الانتخابات المبكرة ضرورة واضحة لاعادة ترتيب الساحة الحزبية، وبمثابة استفتاء متأخر على الانسحابات الأحادية التي نفذت وعلى أي انسحابات قد تجري في المستقبل. وتمثلت الهزة الثانية في وصول الزعيم العمالي اليهودي الشرقي"السفردي"عمير بيريتس الى زعامة حزب العمل على حساب الزعيم التاريخي شيمون بيريز ما أدى الى انسحاب الحزب سريعا من حكومة الوحدة الوطنية بعدما تحول حزب العمل تحت قيادة الأخير مقاولاً لتمرير السياسات التي يعجز شارون عن تسويقها في حزبه"ليكود". أما الهزة الثالثة فكانت مغادرة شارون حزب"ليكود"و تأسيسه حزب"كاديما"الذي جرف معه قيادات وكوادر حزبية اساسية من"ليكود"و"العمل"و"شينوي". أدت الهزات الثلاث الى تبلور أجواء ضاغطة في اتجاه اجراء انتخابات مبكرة جرى التوافق نهاية تشرين الثاني نوفمبر الماضي على اجرائها في 28 آذار مارس المنصرم. وخلال هذه الفترة حدثت هزتان اضافيتان أثرتا في نتائج الانتخابات تمثلتا بغياب شارون عن الساحة السياسية والحزبية، وتحقيق حركة"حماس"انتصارا ساحقا في الانتخابات التشريعية الفلسطينية نهاية كانون الثاني يناير الماضي. جاءت نتيجة الانتخابات الاسرائيلية على النحو الآتي:"كاديما"29 مقعدا،"العمل"20،"شاس"12،"ليكود"12،"اسرائيل بيتنا"11، تحالف"الاتحاد القومي"و"المفدال 9، الأحزاب العربية 9،"المتقاعدون"7،"يهوديت هتوراة"6،"ميريتس"5. وتثير هذه النتائج ملاحظات تمكن مقاربتها كما يأتي: أولا: انها محصلة طبيعية لانخفاض نسبة التصويت غير المسبوقة 63.3 في المئة، وهو ما يعزوه مراقبون الى غياب الزعامات التاريخية، ناهيك عن أن النتائج كانت محسومة سلفاً لمصلحة"كاديما"ما افقدها كثيراً من الزخم بخاصة في ظل التقارب الكبير في البرامج. ثانيا: ينطلق وصف الانتخابات بالهزة من أنها المرة الأولى تشهد الدولة العبرية تأسيس حزب قبل شهور من الانتخابات ينجح في احتلال المرتبة الأولى وبالتالي في قيادة اسرائيل قبل مرور سنة على تاسيسهً. ثالثا: أظهرت النتائج"نزوحاً"اسرائيلياً جماعياً الى الوسط الذي نال مجتمعاً 49 مقعدا ونحو 43 في المئة من أصوات الناخبين. علما أن الوسط الاسرائيلي تبلور بعد فشل"العمل"في التوصل الى اتفاق نهائي للصراع وفشل"ليكود"في هزيمة الانتفاضة وتبني شارون الخطوات الأحادية ورسم حدود اسرائيل من جانب واحد بحجة عدم وجود شريك فلسطيني. لذا اعتبرت الانتخابات بمثابة استفتاء على الخطوات الأحادية ورسم حدود اسرائيل. رابعا: أشارت الانتخابات الى انهيار كبير في صفوف اليمين بعد عجزه عن طرح اي حلول واقعية للصراع مع الفلسطينيين. وحصلت أحزاب اليمين مجتمعة على 32 مقعدا في مقابل 53 مقعداً في الكنيست السابقة. خامسا: تجمع التحليلات على ان"شينوي"هو الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات، اذ لم ينجح حزب الوسط هذا في اجتياز نسبة الحسم وهبط من 15 مقعدا الى الصفر، وهو دفع بشكل أساسي ثمن تشكيل شارون"كاديما"حزباً وسطاً، وانحياز بيريتس ايضا الى الوسط بخاصة من الناحية السياسية، كما دفع ثمن ديكتاتورية زعيمه يوسي ليبيد والخلافات بين قادته. سادسا: لم تستفد الأحزاب العربية من نسبة التصويت المتدنية، اذ قاطعت فئات واسعة من الجمهور العربي الانتخابات 56 في المئة صوتوا. ولو ارتفعت النسبة في الوسط العربي في ظل انخفاضها اسرائيلياً لكان في الامكان تحقيق الأحزاب العربية مفاجأة وتحولها لاعباً رئيساً في الساحة السياسية والحزبية الاسرائيلية. سابعا: تمثلت المفاجأة الكبرى في حصول حزب"المتقاعدون"على سبعة مقاعد، وهو فوز يأتي في أحد أبعاده رداً على سياسات بنيامين نتنياهو المالية والاقتصادية، وتعبيراً عن تحول الشارع الاسرائيلي الى فئات معزولة عن بعضها بعضاً. فالمهاجرون القدامى صوتوا للأحزاب الدينية، والعرب للأحزاب العربية، والمستوطنون لحزبهم"المفدال"، والروس لحزبهم"اسرائيل بيتنا". ثامنا: أفادت الأحزاب الدينية من تراجع نسبة التصويت، وحققت مكاسب ترشحها للعودة الى لعب دور مهم في الحياة السياسية بعد غياب شارون الذي تمكن، للمرة الأولى منذ فترة طويلة، من تشكيل حكومة خالية من المتدينين واخراجهم الى هامش الحياة السياسية. تاسعا: من نافل القول الاشارة الى تحطم اليسار الاسرائيلي، اذ جاءت نتيجة الانتخابات معبرة عن هذا الأمر ومتساوقة مع سيرورة السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت ضعف اليسار وعدم قدرته على التاثير في الأمور سياسيا و اقتصادياً. ماذا عن سيناريوات تشكيل الحكومة المقبلة، وما هي الأحزاب التي قد تشارك فيها؟ من الواضح أن نتيجة الانتخابات، كما طبيعة المواقف والبرامج والرؤى السياسية، تشير الى أن التحالف سيكون شبه محسوم بين"كاديما"و"العمل"و"المتقاعدون"، مع ضرورة تقديم"العمل"تنازلات سياسية لحزب"كاديما"لتمكين زعيمه من المضي قدما في"خطة التجمع والانطواء"والتي تتضمن رسم الحدود النهائية من جانب واحد بحلول عام 2010 عبر ضم الكتل الاستيطانية الكبرى معاليه أدوميم، غوش عتصيون، جنوبالقدس، أرئيل الى اسرائيل، مع الاحتفاظ بغور الأردن منطقة حدودية عازلة، والمضي في بناء الجدار الفاصل وفق هذه المعطيات. وفي المقابل سيضطر"كاديما"الى تقديم تنازلات ل"العمل"في بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية، بخاصة ضمانات الشيخوخة والمتقاعدين ورفع الحد الأدنى للأجور وهو الشعار المركزي في حملة"العمل". ولا يرجح أن تكون هناك مشكلة في الوصول الى حلول وسط بين الحزبين الكبيرين في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن التساؤل يبقى حول هوية الطرف الآخر الذي سينضم الى هذا الائتلاف ويعطيه الغالبية المطلوبة 61 مقعداً. والمرشحون لذلك هم: اما الأحزاب الدينية شاس ويهوديت هتوراة أو"اسرائيل بيتنا". ولكن في ظل المطالب المالية والاقتصادية للمتدينين التي تصل تكاليفها الى بليوني دولار، فان الاحتمال الأقوى يتمثل في ضم"اسرائيل بيتنا"الى الائتلاف، بخاصة بعد اعلان زعيم الحزب استعداده للموافقة على أي خطة شرط أن تتضمن حفظ أمن اسرائيل وقبول المجتمع الدولي بها. وحتى لو تمكن ايهود أولمرت من الوصول الى ائتلاف مستقر مع العمل و"اسرائيل بيتنا"67 مقعدا، أو مع المتدينين 74 مقعدا، فان قدرته على تنفيذ خطة"التجمع والانطواء"ستواجه مصاعب منها معارضة اليمين والمستوطنين والتي تزداد شراسة كلما شعر هؤلاء بالعزلة. ولن يستطيع أولمرت الذي يفتقد الى كاريزما القيادة الصمود في مواجهة المعارضة الصاخبة لليمين والمستوطنين، كما أن وصول"حماس"الى السلطة في الجانب الفلسطيني سيزيد من صعوبة مهمته بحجة عدم تسليم اراض الى سلطة"حماس". ويبقى الخيار منحصرا في المضي في بناء الجدار الفاصل واجراء فك ارتباط مدني، أي اخلاء المستوطنات وتفكيكها، مع الاحتفاظ بالسيطرة العسكرية عليها، وهو خيار مكلف وغير مجد. واذا ما اخذنا في الاعتبار تصاعد عمليات المقاومة واحتمال انهيار السلطة الفلسطينية واضطرار اسرائيل الى اعادة احتلال الضفة الغربية، وربما قطاع غزة، وفي غياب توافق سياسي اسرائيلي ازاء القضايا السياسية والاجتماعية، فان احتمال الانتخابات المبكرة يبقى قائما، وهو خيار قد يؤدي الى تفتت"كاديما"في ظل افتقاره الى المؤسسات الحزبية والتنظيمية وعجزه عن تنفيذ خياراته الأحادية التي تمثل مبرر بقائه على الساحة السياسية. هذا السيناريو، في حال تحققه، سيصب في مصلحة اليمين الجديد، وهو ما عبر عنه صراحة زعيم"اسرائيل بيتنا"أفيغدور ليبرمان الذي لا يخفي أحلامه في تبوؤ رئاسة الحكومة اذ قال:"أظهرت الانتخابات أننا القوة المركزية في اليمين و ينبغي الاستعداد لانتخابات مبكرة خصوصا اذا كانت الحكومة وسطية ويسارية. في هذه الانتخابات سنتمكن من تسلم الحكم". كاتب فلسطيني، مدير "مركز شرق المتوسط للخدمات الصحافية" - بيروت