مرة جديدة تجد اسرائيل نفسها في مواجهة تحولات وتغيرات سياسية كبيرة، وربما نوعية هذه المرة، مهد لها انتخاب عمير بيريتس زعيماً لحزب العمل، وانقسام حزب ليكود، والذهاب نحو انتخابات مبكرة للكنيست. على رغم كل ذلك حري بنا ألاّ نغرق، أو نبالغ، في تفسير تلك التحولات والمتغيرات الاسرائيلية بخطاب الأزمة، أو بمصطلحات عدم الاستقرار والانهيار. فالحياة السياسية والحزبية في اسرائيل، ومنذ قيامها، ظلت جد متحركة ومتحولة، بما يعكس النشاطية السياسية العالية للاسرائيليين، ومزاجهم السياسي القلق والمتقلب والمتطلب، والذي ينزاح من اليمين الى اليسار وبالعكس، ومن تأييد هذا الحزب أو هذا الزعيم الى غيره! هكذا وبدلاً من التعامل السطحي والمتسرع فإنه يمكن النظر الى التحولات والتغيرات الحاصلة في السياسة الاسرائيلية بصورة موضوعية، تعكس حقيقتها الواقعية، باعتبارها، أولاً، شكلاً من اشكال الحراك السياسي الداخلي، وثانياً، محاولة لاعادة تعيين التوازنات الداخلية الحزبية، ولمواكبة التحولات السياسية الحاصلة في المتجمع الاسرائيلي، وثالثاً، محاولة للتساوق مع التحولات السياسية الدولية والاقليمية، وضمنها متطلبات السياسية الاميركية ? الشرق أوسطية. إضافة لما تقدم فما يخفف من طابع الازمة، في التغييرات الحاصلة، قدرة اسرائيل في السيطرة عليها وادارتها بطريقة تتناسب مع اولوياتها ومصالحها، وربما تصديرها للخارج، بالنظر لارتكازها الى النظام السياسي التعددي والتداولي، واحتكامها لصناديق الاقتراع، والاجماع فيها على حل الخلافات بالطرق الديموقراطية، من دون ان ينفي كل ذلك حقيقة وجود أزمة سياسية نابعة من طبيعة الوجود الاشكالي لاسرائيل، باعتبارها دولة يهودية استيطانية استعمارية، ما يتناقض مع محاولاتها التعبير عن ذاتها كدولة علمانية ديموقراطية. وعلى أية حال تبدو اسرائيل اليوم على عتبة تغيير سياسي، ربما يصعب التكهن بماهيته ومداه قبل معرفة نتائج الانتخابات المقبلة للكنيست، أما ملامح هذا التغيير فيمكن تمثل اهمها في الجوانب الآتية: أولاً، ازدياد الاستقطاب بين معسكري الاعتدال والتطرف أو اليمين واليسار، وذلك على خلفية سياسية تتمثل بعملية التسوية مع الفلسطينيين، تحديداً، من دون أن يغفل هذا الاستقطاب الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. هكذا شهدنا كيف أن حزب ليكود اليميني ذاته انقسم على نفسه بسبب هذه العملية، وأساساً بسبب انزياح شارون الى الوسط في الخريطة السياسية والحزبية الاسرائيلية، على رغم كل الاجحاف الكامن في خطته المتعلقة بالانسحاب من قطاع غزة + أربعة مستوطنات في الضفة. وعلى رغم ان هذه مبررات شارون لهذا الانزياح نابعة من مصالح اسرائيل ذاتها، وضمنها تجنيبها مخاطر"القنبلة الديموغرافية"، والحفاظ على طابعها كدولة يهودية، وتحسين مكانة اسرائيل على الصعيد الدولي، والالتفاف الى قضايا التنمية، والتساوق مع السياسة الاميركية الشرق اوسطية. أما حزب العمل، بزعامة عمير بيريتس، فيمكن القول انه انزاح من الوسط الى اليسار، وهو سيحاول الربط بين استقرار اسرائيل الامني وتطورها الاقتصادي، ومستوى الرفاه فيها، وبين عملية التسوية مع الفلسطينيين. اما ما تبقى من حزب ليكود بزعامة نتنياهو أو سيلفان شالوم أو عوزي لنداو فانه سيعمد الى ترميم ذاته في السياسة الاسرائيلية، بصفته ممثلاً لليمين القومي، المتمسك بأرض اسرائيل الشاملة، مع مشاريع من نوع الحكم الذاتي للفلسطينيين، أو"الخيار الاردني". المهم ان التغير السياسي الحاصل في اسرائيل يعكس نزوع المجتمع الاسرائيلي نحو التسوية مع الفلسطينيين، بالتوافق معهم عبر المفاوضات، أو عبر الانفصال الاحادي عنهم، بمختلف تجليات هذين الطريقين. ثانياً، لم يعد النظام السياسي الاسرائيلي يعتمد الثنائية الحزبية العمل وليكود، التي سادت منذ قيام اسرائيل 1948، فثمة اليوم حزب جديد حزب شارون في مركز الحياة السياسية في اسرائيل. وعلى رغم صعوبة التكهن بالكيفية التي سيتجلى بها هذا الحزب، الا ان قطاعات واسعة من الاسرائيليين ستمنح اصواتها لمرشحيه، بسبب"الكاريزما"التي يتمتع بها شارون، وبسب مسيرته السياسية، خصوصاً في السنوات الخمس الماضية. ولا شك في ان هذه الثلاثية الحزبية، الجديدة في اسرائيل، يمكن ان تربك الاحزاب الاخرى، ولا سيما حزبين اساسيين: اولهما، حزب شينوي وهو حزب علماني هو الثالث في قائمة الاحزاب الاسرائيلية 17 مقعداً في الكنيست، وثانيهما حزب شاس لليهود الشرقيين المتدينين، وهو الرابع في قائمة الاحزاب الاسرائيلية 11 مقعداً في الكنيست، اذ ربما تتدهور مكانة هذين الحزبين لمصلحة حزب شارون الجديد وحزب العمل بقيادة بيريتس باعتباره من اليهود الشرقيين. كذلك ثمة خيار امام حزب شينوي يتمثل بالاندماج أو بالتحالف مع حزب شارون الجديد. وهو الامر الذي قد يحصل، ايضاً بين حزبي ياحد ميريتس بزعامة يوسي بيلين والعمل، الذي بات اقرب لياحد بقيادته الجديدة بيريتس. كذلك يمكن ان تعمد اطياف اليمين القومي، المتمثلة باحزاب ليكود والاتحاد الوطني وربما المفدال الحزب القومي الديني ايضاً، للتوحد او للتحالف لمواجهة حزب شارون الجديد، وللحد من نفوذ عمير بيريتس في اواسط الشرقيين. وفي مجمل هذه الصياغات أو الاندماجات السياسية الجديدة، المفترضة، تبقى الاحزاب الدينية: شاس ويهوديت هاتوراه وربما بدرجة أقل المفدال خارج هذه المعادلة تقوم بلعبتها السياسية لاثبات وجودها من خلال ابتزاز الاحزاب الكبيرة، ونيل التقديمات لمحازبيها لترسيخ مكانتها ووجودها في السياسة الاسرائيلية. ثالثاً، من أهم سمات التغير السياسي الحاصل في اسرائيل صعود الشرقيين، الى مركز السياسة الاسرائيلية، مع تزعم عمير بيريتس من اصل مغربي لحزب العمل، ومع امكان صعود شاؤول موفاز من اصل ايراني وزير الدفاع، أو سيلفان شالوم من أصل تونسي وزير الخارجية، الى زعامة ليكود. ومغزى ذلك ان اليهود الشرقيين لم يعودوا مجرد طائفة كبيرة في مرتبة دنيا، بالقياس لليهود الغربيين الاشكناز الذين ظلوا يشكلون صفوة النخبة الاسرائيلية منذ قيام اسرائيل. وهذا الوضع يعكس تزايد دور اليهود الشرقيين في اسرائيل، في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وبما يتناسب مع قوتهم العددية 50 - 55 في المئة. علماً انه لولا هجرة مليون يهودي من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق في عقد التسعينات لباتت نسبة اليهود الشرقيين أعلى من ذلك. رابعاً، ان التغيير السياسي في اسرائيل، عدا عن دوافعه الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، انما يعكس ازدياد تأثر الاسرائيليين بالمعطيات والتحولات السياسية الاقليمية والدولية، لا سيما لجهة التساوق مع متطلبات السياسة الاميركية في الشرق الاوسط. اخيراً على رغم ان ثمة خطأ في المبالغة بالتعويل، أو بالمراهنة، على التغييرات الحاصلة في السياسة الاسرائيلية، خصوصاً ان الراجح ان عملية التسوية ستبقى في دائرة المراوحة، بانتظار اجابات وتغييرات اكثر ملاءمة في الخريطة الحزبية والسياسية الاسرائيلية، كما بانتظار مزيد من الضغوطات والمعطيات الاقليمية والدولية اللازمة، الا انه من المهم، ايضاً، عدم الاستهتار بهذه التغيرات، بل ينبغي اخذها في الحسبان، في بناء السياسات الفلسطينية وفي ادارة الصراع مع السياسات والاملاءات الاسرائيلية.