تبدو الأزمة النووية الإيرانية سائرة، بسبب القصور الذاتي، نحو العقوبات الاقتصادية، بعد فشل جولة مفاوضات جديدة في فيينا بين ايران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما دفع نائب مدير الوكالة للأمان النووي أولي هاينونين إلى إلغاء زيارته المزمعة إلى طهران هذا الأسبوع. وازداد الوضع تعقيداً اثر المؤتمر الصحافي الأخير للرئيس محمود أحمدي نجاد الذي تمسك فيه بمواقف إيران السابقة، بعدما شكل المؤتمر فرصة أخيرة لإيران كي تعلن مواقف جديدة قبل انتهاء المهلة التي قررها مجلس الأمن وتنتهي اليوم، للتوقف عن تخصيب اليورانيوم نهائياً. وإضافة إلى هذا المطلب الأساس، وضعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية ثلاثة أسئلة أرادت أجوبة لها من طهران، وهي: الإطلاع على الوثائق الإيرانية الخاصة بالصفقات النووية مع شبكة العالم النووي الباكستاني عبدالقدير خان، وإجراء مناقشات مع ضباط إيرانيين يشتبه في إدارتهم للأعمال اللوجستية الخاصة بالتخصيب، وأخيراً الحصول على معلومات حول أجهزة الطرد المركزي من طراز"بي-2"التي يعتقد بأن إيران تمتلكها، وتستخدم لتخصيب اليورانيوم بدرجة تفوق مثيلاتها من طراز"بي-1"التي استخدمتها إيران حتى الآن. وفي ضوء استجابة إيران لمطلب وقف التخصيب وإجابتها عن الأسئلة سيقدم مدير الوكالة الدكتور محمد البرادعي تقريره إلى مجلس الأمن كي ينظر في التدابير الواجب اتخاذها حيال إيران. ولا تبدو طهران عازمة على الإجابة عن هذه الاسئلة في هذه الظروف التفاوضية"لأن مجرد القبول بإعطاء إجابة يعني أن القيادة الإيرانية قررت الرجوع عن سياسة التمسك بالتخصيب. كما أن الكشف عن الوثائق والسماح باستجواب ضباط إيرانيين وإعطاء معلومات حول أجهزة التخصيب يفتح البرنامج النووي الإيراني أمام التحالف الدولي المناوئ لها، وينزع"الغموض"حول طبيعته، وبالتالي قدرة إيران على تفجير مفاجآت جديدة، على غرار الإعلان عن نجاحها في تخصيب اليورانيوم بدرجة ثلاثة ونصف في المئة. وما يزيد الأمر تفاقماً من المنظور الإيراني - أن الاستجابة لمطلب الوكالة الدولية لا يعني إنهاء الأزمة، بل على الأرجح العودة بأسئلة ومطالب جديدة تلغي بالتدريج هامش المناورة التفاوضية أمام الإيرانيين. شكل المؤتمر الصحافي الأخير لنجاد الفصل الأخير من الأداء الإيراني التفاوضي قبل المهلة المذكورة، اذ جدد فيه تمسك بلاده بالاستمرار في عمليات تخصيب اليورانيوم، وشدد على إمكانات بلاده الردعية، بعدما ثبت في الأذهان، من جديد، صورة"الرئيس المقاتل"أو"تشافيز الشرق"أمام التهديدات الأميركية. وردا على سؤال حول طابع زيارة محمد رضا نهاونديان مساعد رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى واشنطن، قال نجاد:"هناك مئتا الف شخص يغادرون إيران على مدار السنة ويذهبون ويأتون". وكانت"الفاينانشيال تايمز"أكدت سابقاً أن نهاونديان متواجد في واشنطن لتهيئة الطريق أمام المحادثات الأميركية - الإيرانية. وعكست إجابات الرئيس الإيراني أن هذه المفاوضات تتعثر بسبب عدم رغبة الإدارة الأميركية في دفعها الى أمام، وتبنيها خيار التصعيد. وبعيداً من خطاب نجاد ومفرداته، لا يخفى على المتفحص أنه لم يعد الآن قبل انتهاء المهلة سوى احتمالين نظريين لتطور الأزمة النووية الإيرانية على المدى القصير، الأول هو قبول الطرفين الإيراني والأميركي بالعودة إلى طاولة مفاوضات تشرف عليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي هذه الحال لا يمكن توقع أن تكون المطالب الغربية القاضية بوقف عمليات تخصيب اليورانيوم نهائياً أساساً مقبولاً للمفاوضات، بعدما فرضت إيران واقعاً جديداً بإعلانها تخصيب اليورانيوم إلى درجة ثلاثة ونصف في المئة. والنسبة المذكورة تبتعد كثيراً عن نسبة ال90 في المئة اللازمة لاستخدام اليورانيوم المخصب عسكرياً، لكنها كافية على أي حال لفرض الواقع التفاوضي الجديد. في هذه الحال سيتجه أفق المفاوضات على الأرجح إلى البحث في التزام إيران بوقف محدود لعمليات التخصيب، ولمدة تراوح حول فترة ستة شهور، ثم يحق لإيران بعدها استئناف التخصيب ولكن تحت رقابة دولية مشددة. وهذه النتيجة تعني أن إيران ربحت معركة التصعيد التي خاضتها منذ إعلانها استئناف اليورانيوم مطلع العام الجاري، وهي النتيجة التي لا تبدو الإدارة الأميركية راغبة في التسليم بها. ولذلك فالاحتمال الثاني الراجح لسير الأزمة النووية الإيرانية هو صدور قرار من مجلس الأمن بفرض عقوبات اقتصادية على إيران، تبقى شدتها محلاً للتفاوض بين الأعضاء الخمسة الدائمين، من أجل الاستمرار في الحفاظ على الإيقاع الصراعي للأزمة. وفي حال فشلت واشنطن في تأمين موافقة الصينوروسيا سيعمد التحالف الذي تقوده واشنطن إلى فرض عقوبات اقتصادية، من دون غطاء من مجلس الأمن إذا استلزم الأمر. العقوبات الاقتصادية، أساساً، واحدة من أدوات الاقتصاد السياسي، تستخدمها الدول لمعاقبة دولة بعينها لإجبارها على القبول بمطالب سياسية معينة. ونظراً الى أن العقوبات الاقتصادية تتطلب وقتاً تنضج فيه أدواتها وتتضح آثارها الاقتصادية - الاجتماعية ومن ثم الاقتصادية - السياسية على البلد المعني، فالأرجح أن واشنطن الراغبة في التصعيد ستتبنى خيار العقوبات الآن من أجل خلخلة الوضع القانوني لإيران. وستلبي العقوبات الاقتصادية حاجة ماسة للإدارة الأميركية، فمن طريق فرضها ستظهر إدارة الرئيس جورج بوش قدراً من"الصرامة"تحتاجها للحفاظ على صدقية التحالف الدولي الذي تقوده ضد إيران من جه، ومن جهة أخرى تستدرك الهبوط المتسارع لشعبية الرئيس الأميركي بسبب حرب العراق وأخطاء إدارته هناك وتخفيف الضغط على رموز إدارته، وفي مقدمهم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد. وستكون العقوبات الاقتصادية أداة لإدارة بوش من أجل الهروب إلى الأمام والخروج من مأزق عدم قدرته على إثبات انتهاك إيران التزاماتها الدولية، والتقدم خطوة أساسية في اتجاه الحل العسكري. وفي حين تبدو العقوبات الاقتصادية تكتيكاً أميركياً لإدارة الأزمة، وحلاً مرحلياً يسبق حلولاً أكثر صرامة، فإنها لا تشكل - من المنظور الإيراني - كارثة كبيرة، بل نتيجة يمكن القبول بها في الوضع الحالي، وتسمح باستثمار الوقت لفرض وقائع إقليمية جديدة. ودائرة النفوذ الإقليمي الإيراني تمتد لتشمل المحور الذي تقوده بدءاً من العراق ومروراً بسورية وليس انتهاء بلبنان، ولذلك فالأرجح أن يقابل التشدد الأميركي والعقوبات الاقتصادية المحتملة بمزيد من العرقلة للمشاريع الأميركية في هذه المنطقة الجغرافية في الأسابيع المقبلة. إصرار على المواجهة ويجعل إصرار واشنطن على المضي في المواجهة مع إيران حركتها مقيدة بطريق إجباري واحد يتمثل في الضغط على أعضاء مجلس الأمن والحلفاء لفرض عقوبات اقتصادية على إيران وصولاً إلى اعتماد الحل العسكري في النهاية. لذلك تبدو العقوبات الاقتصادية الآن مثل مرحلة وسيطة قبيل الوضع شبه النهائى، أي اعتماد الحل العسكري. وعلى رغم ذلك لا تبدو الإدارة الأميركية في وضع يتيح لها إقناع كل الشركاء في مجلس الأمن، بخاصة الصينوروسيا، اللتين أفهمتا إدارة بوش بطريقة دبلوماسية وإن كانت واضحة أنهما لا تشاطرانها الرأي في ما يتعلق بكيفية التعامل مع ملف إيران النووي. ولا تفوت ملاحظة أن الرئيس الصيني هو جينتاو شدد في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع نظيره الأميركي في البيت الأبيض قبل اسبوع على ضرورة اعتماد الطابع السلمي لحل النزاع مع إيران. أما روسيا فما زالت تأمل في قبول إيران لاقتراحها تخصيب اليورانيوم على أراضيها، ما سيفتح لها آفاق أرباح اقتصادية وسياسية في إيران، وترميم وضعها الدولي باستخدام الملف النووي الإيراني. وفي هذا ما يفسر الموقف الروسي القائل:"روسيا مستعدة للبحث في إجراءات صارمة فقط في حال وجود إثباتات واضحة على عدم سلمية البرنامج النووي الإيراني". وسيمثل الاجتماع المقبل لمجلس الأمن علامة فارقة في تطور"الأزمة النووية الإيرانية"، باعتباره خطوة أساسية قبل التصعيد. ولكن ما سيتمخض عن الاجتماع من عقوبات اقتصادية ضد إيران، سواء كانت مغطاة بقرار من المجلس أم معتمدة من طرف التحالف الذي تقوده أميركا، تبدو طريقاً إجبارياً نظراً الى حاجات أميركا التكتيكية. وتثبت التطورات الأخيرة أن القطب الدولي الأوحد لا يملك أفكاراً تفاوضية تحاصر إيران دبلوماسياً وتوسع دائرة تحالفه الدولي، بل فقط تهديدات بإنشاء"تحالف الراغبين"للانخراط في حرب ضد إيران من دون غطاء من مجلس الأمن إذا تطلب الأمر، كما قالت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، أو شن"حرب وقائية"بالقنابل النووية التكتيكية كما نقل الصحافي سيمور هيرش عن مسؤولين نافذين في الإدارة الأميركية. أما الإدارة الإيرانية للأزمة فتثبت وعيا بالمأزق الذي تعيشه واشنطن في العراق، واستيعاباً لتناقضات المصالح الدولية بين واشنطن وموسكو وبكين، لكن البراعة الإيرانية المقترنة بصلابة تفاوضية ملحوظة لا يمكن التعويل عليها الى الأبد. وتستند هذه الفرضية الى حقيقة أن إيران استنفدت أوراقها التفاوضية التكتيكية بعد إعلانها تخصيب اليورانيوم، ولم يتبق في جعبتها سوى ورقتين فقط، هما: الإنسحاب من البروتوكول الإضافي الذي يسمح بعمليات تفتيش مفاجئة، والانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كما فعلت كوريا الشمالية في السابق. لا يعني ذلك أن إيران ستقدم بالضرورة على استخدام أي من هاتين الورقتين، لكن لم تعد هناك أوراق تفاوضية أخرى يمكن لطهران استخدامها لفرض واقع جديد على محاوريها في المستقبل. وتنفيذ الرئيس الإيراني تلميحاته بإمكان الانسحاب من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، سيؤدي إلى قيام تحالف دولي يضم كل أعضاء مجلس الأمن لمواجهة إيران. لذا ربما كان ينبغي على طهران ألا تفرط في تقدير"التناقضات الدولية". صحيح أن روسياوالصين لا تشاطران واشنطن طريقة إدارتها للأزمة، لكن الصحيح، والدقيق أيضاً، أنه ما من عاصمة دولية تتعاطف بالفعل مع طموحات إيران النووية. * خبير مصري في الشؤون الإيرانية والتركية، رئيس تحرير فصلية "شرق نامه"