صديقان من جيل الفنانين التشكيليين الشبان في العراق، هما سروان بران وهاني الدللا علي، يقيمان في عمّان - الأردن حيث يزاولان الفن، كل برؤيته واسلوبه وشغفه، تستضيفهما غاليري زمان بيروت في معرض ثنائي من ثلاثين لوحة ميكسد ميديا على قماش وخشب عكست التجارب الأخيرة لكل منهما، على المسطح التصويري وفي الرموز الشكلانية للموضوعات التي تستعيد الذاكرة الانسانية من مقتربات متعددة. يفترقان في الأسلوب، يتفقان في المتانة والتجديد. سروان بران تعبيري - محدث، وحروفي زخرفي شغوف بالشكل الانساني. يستلهم في أعماله وقفات نساء عراقيات في رحابة المدى، على مسافات متباينة من عالم الداخل الخاص وعالم الخارج العام. فالأبواب تبدو مغلقة على نساء في داخل اللوحة يعشن حالة وئام كأطياف من عائلة واحدة. ومن طلاسم الكتابات التي تعرفها النساء وتتزين بها، يخرج سروان إلى ساحات يتجهمر فيها الناس فيلاحق بريشته الوجوه الحمر والقامات البيض المتلاصقة كأنها في حال من الترقب، وقد لفحتهم رياح الأرض اليباب. وبعيداً من الدرامية المأسوية التي إن أطلت فهي تطل في حالات ايمائية تلميحية ورمزية. فالموضوع يحضر لديه من خلال توليفات بنائية، يترابط فيها عنصر المكان بالتشخيص المتجرد من الملامح. من شرفات الماضي تطل قامات سروان وهي مغطاة بأشكال الزخارف والكتابات الشبيهة بالوشم، لكأنها مطبوعة بملامح تراث دفين ينفرط عقده في المساحات الملونة بالترابي والأزرق اللازوردي، في تماهي العناصر وتداخلها. فالرسام يمتلك كل الوسائل التي تدفعه إلى صوغ مساحات لونية ذات جمالية ظاهرة، تنطلق منها التحولات في الموضوع الواحد الذي يتفرع مثلما تتفرع الأغصان من شجرة وارفة. من أفق هو خط الأرض الحمراء الغائرة، تنبثق سحابات نساء في مواكب يحملن الشموع، يجلسن ويقفن ويثرثرن منعاً للوحدة والقنوط. في المناخ الحلميّ الذي لهن يتلاشى حضورهن ولا يظهر منهن غير غطاء زخارفهن الذي يصير شيئاً فشيئاً جسداً وجلداً وحلماً. وبين ألوان الأرض الصلصالية الحارة وزرقة السماء، ثمة مكان موهوم يظل شاغراً دوماً، وكأن ليس من أدوار تقوم بها نساء سروان سوى الوقوف أو الالتفات أو الجلوس المتموضع في ثنايا الذاكرة. ولا تخبىء لوحات سروان شيئاً أبعد من مظاهرها الخارجية وطلاوتها اللونية البراقة. في أعمال هاني الدللا علي، يتراءى التجريد حصيلة للتجارب التي يجريها الرسام بواسطة الخامات والمواد والتقنيات المتعددة، سعياً إلى الايهام بالعمق الفراغي الذي يتخذ تأويلاته من رمز المتاهة. فألوان الحرائق والدخان تغطي مسطحاته التي تغيم فيها الرموز والاشارات السيميولوجية كعلامات مبهمة مترسبة على الجدران. إنها الذاكرة المعذبة الجريحة التي تستعير من تراث الرافدين، أشكالاً مجردة وتفاصيل وزخارف هندسية ونباتية. على حافات تبدو كأنها محفورة في عمق العجائن، ثمة موكب لقامات انسانية صغيرة مستعادة من طقوس حياة بابل القديمة تذكر بالمنحوتات الطينية والاختام الاسطوانية. فالتقنية تقوم على إلصاق القماش والشبك والحبال والمعادن، وتعتمد على الحك والقشط والتبصيم، في انواع من الملامس تتفاوت بين الغائر والنافر، مع لونية حارة، ملتهبة احياناً، تعكس قوة الايهام التعبيري. فالشكل المربع يخترقه مربع صغير في الوسط كثغرة تجعل اللوحة بمثابة نافذة على بغداد في حاضر حرائقها وانفجاراتها، وهي معلقة بين ماضيها التراثي القديم ونخيل جنائنها وحاضرها المأسوي الدامي. فالاحساس بالتشققات على سطح اللوحة يوحي بملمس الأرض، والمتاهة التي يتغير موقعها من لوحة إلى اخرى، تغدو مربعاً مقفلاً كبيت في مهب الاحتمالات، وغالباً ما تكون مفتوحة من أحد جوانبها نحو المجهول اللوني الذي يجد ملاذه في مسطح واحد خالٍ من الأبعاد. مثل جدران من الطابوق القديم، ولكن بحلة تراجيدية محدثة تبدو اللوحات التي تنقسم في تآليفها المبسطة إلى حقول عمودية أو أفقية. والمتاهة - اللغز، هي في نهاية المطاف مثل مفتاح للرؤية يقود العين إلى مسارات الأحوال اللونية في تطورها التعبيري من الألوان المخففة الغائمة إلى ألوان ساطعة مائجة، تخبىء في ثناياها شرارات الضوء الأصفر البرتقالي. من مواقع الألم العميق يأتي هاني الدللا علي، متقشفاً بسيطاً يجتهد في تأسيس سطحه الخشبي بأمواج لونية على مستوى من التعبير الرمزي عن حالات الضياع والتبعثر والتعلق بالجذور. سروان بران وهاني الدللا علي يعيشان الفن بقوة، رغبة منهما في تحقيق وجودهما الفني على ساحة المعارض والبينالات العربية فضلاً عن المشاركات الدولية، ويقطفان الجوائز. وهما كفنانين مهاجرين لم ينقطعا عن التواصل مع تجارب الفنانين العراقيين المخضرمين، غير انهما على انغماس شديد في الاختبارات الجديدة للفن المعاصر، راحلين في مغامراتهما إلى كل دهشة بصرية.