السؤال الذي يثيره معظم نقاد الرواية ودارسيها من العرب، ويثيره الناقد والباحث التونسي محمد القاضي في كتابه الجديد:"في حوارية الرواية"دار سحر - تونس 2005 غالباً ما يأتي سؤالاً عن الكيفية التي استطاعت فيها"الرواية، وهي جنس حديث، ان تكتسح الاداب القومية على اختلافها، وان تقتحم منظومات الاجناس الادبية على تنوعها، وأن تحلّ في اللغات كلها فتصبح في حيز زمني قصير اكثر الاجناس حظوة لدى القراء، وأكثرها استقطاباً لاهتمام النقاد؟"... مجيباً عن السؤال من خلال قراءة نقدية لأعمال احد عشر روائياً تونسياً ينتمون الى اكثر من جيل في الرواية العربية في تونس هم، بحسب رأيه، من"ابرز من تصدى للرواية وسعى للاضافة، وفتح لنا كوى نستطيع من خلالها ان نطل على هذا الجنس العصيّ المتفلت وأن نقف على جوانب من ابداعيته"، موزعاً قراءته النقدية فيه بين"التحديد الاجناسي، ومصادر الابداع الروائي، وآليات اشتغال النص الروائي، والبلاغ الذي ينشده". وللكتاب، في هذا كله، خاصتان أساسيتان: - الاولى: كونه يعرفنا بالرواية او بطرف منها في بلد يشهد الفن الروائي تطوراً ملحوظاً، وتستأثر الرواية فيه، موضوعاً، بهموم وانشغالات انسانية وفنية تجسد/ او تعبر عن طبيعة ثنائية البعد والاهتمام: اجتماعية، في ما يخص عمليات التغير والتحول في واقع بلد مثل تونس.. وفنية، في ما تسعى فيه من تكريس ما للحداثة من وجوه الابداع متمثلة في اعمال ادبية هي، في تمثيلاتها، اقرب الى الاصالة روحاً وجوهراً منها الى أي منحىً آخر. - والثانية، انه يجمع في ما كتب بين الممارسة النقدية وأسلوب البحث الاكاديمي، فهو في الوقت الذي يستقصي فيه المكونات، والفواعل، ويحاكم الآراء او يحتكم اليها في ما يسعى الى تثبيته من رؤية للأعمال موضوع القراءة، يأخذ العمل بعين الناقد وعقله، مقيماً قراءته على التحليل، والاستبطان الدلالي، والحكم الفني. وتكون البداية لفصول الكتاب، كما هو البداية التجديدية في الأدب التونسي الكاتب الكبير محمود المسعدي، في محاولة لتجنيس كتاباته. فهذا الاديب"الاشكالي ادباً"، يختار له من بين ما كتب كتابه"حدّث ابو هريرة... قال"، فيجده - كما يجده احد دارسيه - ينسج فيه"على منوال جنس ادبي قديم هو"الخبر"وهو وحدة سردية مستقلة". الا انه يجد ان"تصرف الكاتب في الزمان، وحتى في المكان، هو الذي يكسب هذا الأثر حداثة ما كانت الاحاديث والاخبار التي تقوم على اشكالها لتعرف شيئاً منها"... بل سنجده يذهب في ما هو ابعد من هذا، اذ يرى ما يراه الناقد توفيق بكار من أن المسعدي اعتمد في عمله هذا"احدث أساليب البناء القصصي"حين"كسر خط الزمان وتصرف فيه طرداً وعكساً بما لا تنكره آخر تقنيات الرواية الجديدة". فالمسعدي الذي يرى ان"الادب الباقي الذي لا يختلف من حضارة الى حضارة ومن ادب الى ادب هو ادب التجربة الوجودية"يدفع الناقد، في قراءته هذه له، الى القول إن كتابة المسعدي"كتابة تريد ان تكون لا تاريخية"، ولذلك فهي تخرق الأجناس،"لأن الأجناس، على وجه التدقيق، ظاهرة تاريخية"، ومعنى هذا - بحسب الناقد -"انها كتابة تريد النفاذ الى جوهر الانسان الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان". ثم يقف مع البشير خرّيف في روايتين من رواياته: الاولى تاريخية، والثانية ما يعبر عنه بفكرة"انتماء الشيء الى اصله"... أما التاريخية، فهي"برق الليل"التي تتصل بتاريخ تونس في القرن السادس عشر. ومع ان الناقد يأخذ هنا بالرأي الذي يذهب الى أن الروائي في الرواية التاريخية يبدع"كوناً خيالياً - روائياً يتكون في آن واحد من عناصر متخيلة وعناصر واقعية"، فإنه يتساءل عن الكيفية التي تحققت فيها"علاقة الرواية بالتاريخ في هذا النص؟"ليجد، من خلال قراءته لها، انها رواية"جامعة بين المتخيل والتاريخي"، وأن"كاتبها لا يتردد في اسناد ادوار تاريخية الى شخصيات متخيلة"، مع ان"هذا المتخيل يضمحل احياناً حين تنهض العلاقة بين الروائي والتاريخي على النفي المتبادل"، ليقوم الخطاب هنا - كما يستخلص ذلك من قراءته له -"على مراوحة بين القطبين: فالروائي يبسط نفوذه ويغيب التاريخي، والتاريخ بدوره يحد من غلواء الرواية وينفرد بالمساحة النصية"... وخلاصة هذا الموقف هي ان البشير خريف سار، في روايته هذه، مسار"مجافاة التاريخ والانحياز الى الفن على حساب المرجع، مما جعل التاريخ ثانوياً من جهة، وغيّرَ مجراه، من جهة اخرى، استجابة لمقتضيات الخطاب الروائي وظروف العصر". غير ان للتاريخ الذي تستأثر به غير رواية من الروايات التي يتناولها الكتاب بالنقد والتحليل وجهاً آخر في ما يدعوه"حداثة الماضي"، ليجده متمثلاً في رواية محمد الحبيب براهم:"انا وهي والارض"، فيرى من خلال هذا العمل"ان السردية في معناها الاول تعبير عن التحول"، وان هذا التحول لا يتأتى"الا في سياق زمني". واذا كان"نسيج الاحداث في هذه الرواية يحوم حول مجموعة من المصائر المتقابلة"التي جمعت بينها مدينة متعينة تاريخياً وجغرافياً في طور حاسم من اطوار التاريخ، فإن هذا ما يجعل شخصيات الرواية تتحرك في مستويين: مستوى ظاهر، ومستوى آخر"يسري في احناء هذه الشخصيات وما تضطلع به من اعمال"، جامعاً في هذا العمل بين"ماضي الخبر وحداثة الخطاب"بما يكشف عما يرى فيه الناقد اختياراً فكرياً وجمالياً يتركز في ثلاثة اسئلة يجدها تمثل بؤراً رئيسة في الرواية، هي: الزمان والمكان والكيان. وفي فصل آخر من الكتاب يقرأ رواية حسن نصر"دار الباشا"واضعاً قراءته تحت عنوان دال:"هذه دار الباشا فأين مفاتيحها؟"، مؤكداً ان العالم الذي يأخذنا اليه ينوء تحت وطأة الذكريات". واذا كانت الرواية قد جاءت قائمة على حركات اربع، فإن العناصر فيها، هي الاخرى، اربعة، وكذلك الاستقصاءات والاخلاط والفصول... ليجد ان الكاتب فيها قد تعمد"تكسير الزمن، فلم يخرج لنا رواية"كلاسيكية"، وانما جعل البنية الزمنية لولبية، فيها مراوحة بين الحاضر والماضي بأنواعه". والسؤال الذي يثيره هنا - والذي يجده سؤالاً قائماً - هو:"لماذا نخرج من الحاضر الى الماضي، ومنه الى الحاضر في مراوحة لا تني؟"، ليذهب في"ان ما يستنتج من ذلك ان الحاضر لا يفهم الا بالماضي"، وان كان"ذلك الماضي نفسه لا يفهم الا بالحاضر"المراوحة"عند حدود الزمن المتكسر، بل تأتي في السرد من خلال الضمائر المضطلعة بالرواية"، وإن كان يرى ان الرواية هي"رواية شخصية تبحث عن معنى حياتها". واذا كانت هذه القراءات النقدية قد تميزت بروحها المنهجي، فإن"المنهج"الذي اتبعه في القراءة يتضح اكثر، وعلى نحو اكبر، كلما مضينا مع فصول الكتاب... لنجده في قراءة رواية ابراهيم درغوثي:"شبابيك منتصف الليل"يتوجه في هذه القراءة ضمن بعدين منفصلين يجدهما في الرواية، وهما:"حداثة التماسات"و"تماس الحداثات"، مؤسساً قراءته على"هاجسين اساسيين: اولهما كيفية اشتغال النص بعامة والنص الروائي بخاصة وقدرته على توليد الدلالة من اللغة بإنشاء نظام يتخذ موقعاً ضمن جملة من الأنساق المحيطة به ... وأما الهاجس الثاني فمداره على منظومة القيم الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تعيش في خضمها". ويستقصي الناقد موضوع العلاقة بين"الرواية والهوية"من خلال رواية الحبيب السالمي"حفر دافئة". ومع ان تأكيده كون الهوية تمثل"مشغلاً اساسياً من مشاغل الفكر الفلسفي والبحث النفساني والدرس الاجتماعي"،"في حين ان الرواية ابداع"، الا انه يجد بينهما"اتحاداً في الصفة، اذ ان كلاً منهما ظاهرة تاريخية متحركة"بما"ينشئ بينهما علاقة احتوائية متبادلة. فالهوية تحوي الرواية بما هي مظهر من مظاهر التعبير الجمالي، والرواية تحوي الهوية من حيث هي خلفية ورصيد يؤمنان للرواية انتماءها الى مجال اجتماعي وحضاري معين"...