نجح زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان القابع في سجن امرالي، الى حد بعيد، في اختصار القضية الكردية في تركيا في شخصه، وتقديم اطلاقه على ما سواه من مطالب لاكراد تركيا. وتجلى ذلك بوضوح الشهر الماضي في احتفالات عيد النوروز في جنوب شرقي تركيا ذي الغالبية الكردية، خصوصاً في مدينة دياربكر، عندما جاب عشرات من أنصار"حزب المجتمع الديموقراطي"الكردي الذي أمر اوجلان بتشكيله بين حضور الاحتفالات لجمع تواقيع على"استفتاء"على زعامة"آبو"لاكراد تركيا، فيما ارتفعت صور أوجلان بالمئات حتى بدا أن قضيته هي، وحدها، القضية الكردية! وكان الزعيم الكردي السجين منذ العام 1999 دعا قبل نحو سنة الى تشكيل"حزب المجتمع الديموقراطي". وجاءت دعوته بعد اطلاق السلطات التركية الناشطة الكردية ليلى زانا ورفاقها من السجن في حزيران يونيو 2004، وتزامنت مع مساع كردية لزانا وسياسيين أكراد لتشكيل تيار سياسي كردي ينبذ العنف واللجوء الى السلاح، ويطالب بحل القضية الكردية من خلال توسيع دائرة الديموقراطية والحريات، ويكون على مسافة من الاطروحات الفلسفية لحزب العمال الكردستاني، مع الاهتمام بالوضع الانساني لاوجلان كقيادي يحظى بشعبية كبيرة في صفوف اكراد تركيا. لكن هذه المحاولة تعرضت لانتقادات مشوبة بالتهديدات من قبل حزب العمال وقياداته المرابطة في جبال قنديل في شمال العراق. وتبعت ذلك اغتيالات لقيادات قديمة انفصلت عن الحزب وأعلنت معارضتها لسياساته ونهجه المسلح، وحضت على استغلال الانفتاح الديموقراطي في تركيا والحوار من أجل حل القضية الكردية. المشاورات التي اجرتها ليلى زانا ورفاقها تركزت على مطالبة أنقرة باصدار عفو عام عن عناصر حزب العمال لحل مشكلة اجتماعية كبيرة لعائلات نحو خمسة آلاف مسلح، وتحييد السلاح كعامل يستخدمه الحزب المحظور لفرض رأيه على الجميع. لكن الحكومة التركية امتنعت عن الاستجابة لهذه المطالب لئلا يؤدي أي قرار بالعفو الى غضب جماهيري ينعكس سلبا على حزب"العدالة والتنمية"الطامح الى البقاء في الحكم لولاية ثانية، كما خشيت ان يؤدي الامر الى تصدير كوادر مدربة الى الداخل التركي تتحول مع الوقت قنبلة موقوتة في حال تمكن هؤلاء من التسلح في الداخل. وكانت النتيجة ان رجحت الكفة الكردية مجدداً لمصلحة أوجلان وحزبه على حساب زانا ورفاقها، فشكل"حزب المجتمع الديموقراطي"، واختارت زانا الابتعاد عن الساحة السياسية. ازمة قديمة واجهت الجمهورية التركية الحديثة منذ قيامها تحديين داخليين رئيسين: الأكراد والاسلاميين. اذ قامت فلسفة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال اتاتورك على تشكيل دولة قومية على انقاض الميراث العثماني الاسلامي المتعدد الاثنيات، تضم شعبا واحدا متجانسا تذوب فيه الاختلافات العرقية، في نظام علماني صارم مأخوذ عن النموذج الفرنسي يهمش دور الدين والتمايز الطائفي. وفيما نجح الاسلاميون الى حد ما في حل بعض مشاكلهم، بل والوصول الى السلطة كما في تجربة حزب"العدالة والتنمية"، متجنبين سياسة الصدام المباشر مع القوى العلمانية، فشل الأكراد في التكيف مع الواقع التركي في طرح قضيتهم، بسبب نجاح اوجلان في فرض نفسه المعني الأول بهذه القضية، ما أبقى الاحزاب المعنية بالقضية الكردية في تركيا حبيسة افكار حزب العمال الكردستاني التي تدخل في اطار"الفانتازيا"السياسية، على شاكلة الحديث عن"جمهورية ديموقراطية تركية جديدة"أو"شرق اوسط كونفيديرالي تتواصل فيه المناطق الكردية في ايرانوتركيا وسورية والعراق من دون ان تنفصل عن دولها الاصلية"! وهي طروحات ابعد ما تكون عن الواقعية السياسية، وتشكل امتدادا للافكار الشيوعية والثورية التي لا يزال اوجلان وحزبه يؤمنان بها. ويتجلى ذلك في ما يطرحه"حزب المجتمع الديموقراطي"من مطالب سياسية، وفي مقدمها الاعتراف بالهوية الكردية في الدستور، وهو ما يتطلب اعادة بناء الجمهورية التركية من جديد، ويقصي القوميات الاخرى بحجة الكثافة العددية للاكراد. ومثل هذه المطالب لا يجعل الجيش والحكومة يرفضان الخوض فيه فحسب، بل يستنفر رفضا شعبيا كبيرا في تركيا، و يهمش اطروحات كردية اخرى تقبل بالاعتراف بالحقوق الثقافية وتوسيع الديموقراطية وترك ما دون ذلك لما قد تدخله الاصلاحات التي يطلبها الاتحاد الاوروبي من تغيير على آلية التفكير السياسي في تركيا. وعلى رغم نجاح اوجلان في خلق وعي كردي بالهوية وانتزاع اعتراف دولي بالقضية الكردية في تركيا، الا ان طرحه الخيالي، والتركيز على تسخير الاصلاحات الاوروبية لفتح الطريق امام نقل حزب العمال الكردستاني من الجبال الى الساحة السياسية من دون تغيير في افكاره فروع"حزب المجتمع الديموقراطي"في تركيا تحولت فعليا فروعاً لحزب العمال ترعى مصالح عناصره وتنشر افكاره، يهددان بحدوث نكسة في مجريات الاصلاحات السياسية التركية التي تطبق ببطء. فالى جانب خسارة الاكراد في تركيا جزءا كبيرا من الدعم الاوروبي السابق لهم، وهو ما انعكس في عزوف السفراء الاوروبيين عن حضور احتفالات عيد النوروز هذا العام ومطالبتهم القيادات الكردية بالتنديد علنا بالعنف، يستعد الجيش التركي، بذريعة ازدياد هجمات حزب العمال الكردستاني، للضغط على الحكومة التركية من اجل استصدار قانون جديد لمكافحة الارهاب يعيد الى العسكر ما فقدوه سابقا من صلاحيات تمتعوا بها اثناء اعلان حال الطوارئ في مناطق جنوب شرقي تركيا. اضف الى ذلك تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الكردية في تركيا بعد ما حصل اكراد العراق عليه من مكاسب سياسية واسعة. خيار بارزاني في المقابل، تقف التجربة الكردية في العراق والتي تتجه الى تحقيق استقلال فيديرالي قد يتبعه قيام دولة كردية مستقلة، مثالاً يمكن ان يشكل للوهلة الاولى تهديدا لتركيا. الا ان الاوساط التركية بدأت منذ سنتين تعيد حساباتها في علاقاتها مع اكراد العراق آخذة بمبدأ الواقعية. بل ان كثيرا من الاوساط السياسية في تركيا ترى في ترؤس مسعود بارزاني لاقليم فيديرالي كردي عاملا ايجابيا، من خلال توفير نموذج بعيد عن الطرح"الاوجلاني"يحقق الحلم الكردي بكيان مستقل، ولكن خارج حدود تركيا. ولذلك تتغاضى الحكومة التركية عما يجري من اندماج اجتماعي واقتصادي بين جنوب شرق تركيا واقليم كردستان العراق، من خلال سفر مئات الشبان الاكراد للتعلم في الجامعات الكردية العراقية أو للعمل او التجارة او الاقامة. وقد عبرت الاحتفالات في جنوب شرقي تركيا بتولي بارزاني رئاسة اقليم كردستان العراق عن وجود رابط عاطفي يمكن تطويره وتوثيقه لتحييد الطرح"الاوجلاني"الذي يتعارض ايضا مع طروحات القيادات الكردية العراقية. اذ ان النزاع على زعامة الكيانات الكردية في المنطقة بين اكراد العراق وحزب العمال الكردستاني قديم، وعليه فان دعم زعامة بارزاني في شمال العراق قد يفيد تركيا في سعيها الى تهميش اوجلان وتحويل عواطف اكراد تركيا عنه، شرط ان يبقى نفوذ البارزاني واكراد العراق خارج الاراضي التركية، حتى ولو تحول هذا النفوذ مستقبلا الى دولة كردية مستقلة. بالتالي يبدو ان السياسة التركية الحالية تعيد التفكير في موقفها من قيام دولة كردية في شمال العراق اذا كان قيامها يشكل ضمانة للوقوف في وجه"الحلم الكردي"في تركيا، واقناع الأكراد بأن"حلم"الدولة، لمن يرغب، يتحقق في شمال العراق، اما في تركيا فأقصى ما يمكن تقديمه الاعتراف بالهوية وبالحقوق الثقافية من ضمن مشروع ديموقراطي يخطو نحو العضوية في الاتحاد الاوروبي. السياسات التركية تجاه القضية الكردية معرضة برمتها للتغيير الجذري، من باب التأقلم السريع مع مستجدات الوضع الداخلي والاقليمي، وهو ما تجيده أنقرة عادة، هذا اذا لم يفرض الحل العسكري نفسه على الساحة ليعيد الوضع كله الى المربع الاول، في حال وافقت تركيا على المشاركة في قوات عربية واسلامية تحل محل القوات الأميركية في العراق، وعندها ستكون الفرصة سانحة لعودة الهيمنة العسكرية من جديد على الملف الكردي في تركيا وفرض قانون مكافحة الارهاب الجديد. ويبدو واضحا ان تصعيد حزب العمال الكردستاني هجماته وتظاهراته الشعبية تصب أساساً في مصلحة هذا المخطط العسكري قبل أي شيء آخر.