باتت استعادة التاريخ أمراً ضرورياً في حياة المسلمين، استعادة تُقتنص منها العبر والفوائد وليست استعادة تسكن الاوجاع وتخدر الوجدان. ولا شك في ان اعظم مرحلة مرّت في حياة الأمة الاسلامية، إن لم نقل مسيرة التاريخ، هي هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي رسمت للتاريخ خطوطاً جديدة وحولت الانظار من روما وفارس الى بادية العرب، واعطت للتاريخ منطلقاً جديداً ودورة تالية. اننا في أمس الحاجة للوقوف أمام الهجرة واستجداء المعاني التي تصلح الفساد في تفكير المسملين اليوم. ان الحديث عن الهجرة يستدعينا الوقوف أمام مرحلتين: المرحلة الاولى تمتد من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الى فتح مكة وكانت الهجرة فيها معنوية الهدف. ان أولى العبر التي تنطق بها المرحلة الاولى تكمن في كون النبي محمد صلى الله عليه وسلم آثر المفارقة على المقاومة، وفي ذلك رسالة لنا لدراسة الامكانات والعمل وفقاً لها وعدم القفز فوق الحواجز المنطقية، التي غالباً ما تنقض ما بني بسبب التهور، مع ان النبيصلى الله عليه وسلم كان في امكانه ان يؤلب اصحابه على الخطف والقتل طالباً النزول عند رغباته متحصناً بشعاب مكة الوافرة، ولكن الهدف الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسعى إليه اكبر واعمق من ذلك. ان الهدف الذي ابتغاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم من تلك السياسة هو الحفاظ على الدين الذي قد يهدم في اول صدام مع المشركين مع الحفاظ على القيمة الخلقية لهذا الدين التي غالباً ما ستفقد تحت وطأة ظروف المعارك والقتال، وهذا ما نراه اليوم من تحول المسلمين الى عصابات تكر وتفر، وتقتل مضطرة وغير مضطرة وتصادم الانسانية مكرهة وغير مكرهة، تنمي الروح العدائية لهذا الدين وتمحو معها الرسائل الخلقية التي فتح الاسلام بها العالم قبل الفتح بسيفه، ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يهدف الى بناء الدين من دون خسائر خلقية أو روحية، مما كان له الاثر الاعمق في دخول الناس في الاسلام افواجاً. ولا شك ان ذلك يحتاج الى روية في انتظار النتائج، هذا الحلم الذي فقد اليوم وتم اللجوء الى الوسائل الأسرع وهي القتال والحروب، مع ان النبي صلى الله عليه وسلم انتظر تحت الضغط يصبر ويصبّر قرابة خمسة عشر عاماً من دون ان يطلق سهماً أو يقتل شخصاً. ولا شك في ان وصوله الى المدينة والمسارعة الى وضع الدستور يدل على اهتمامه بصناعة الدولة التي تحمل اعترافاً بالكيان - كان ينتظره في مكة طويلاً - من دون ان يكون مجهول الهوية أمام العالم فالآن يتكلم من دولة لها حقها على المستوى العالمي ولا يتكلم من وجهة نظر افراد اقتنعوا بشيء - صحيحاً كان أم فاسداً - وعزموا على تطبيقه بشتى الوسائل مهما كانت الخسائر، فهو في دولة لها الحق في ان تطرح قانونها على المستوى العالمي، وان تقبل وترفض على اساسه فهي موجودة يمكن التفاوض معها لا انها تختبئ وتطرح ما تريد، فكان تشريع الجهاد الحلقة التالية لقدومه الى المدينة، لأنه اليوم اصبح في دولة يستطيع ان يتجاوز معها الموانع التي منعته في مكة. ثم انظر الى التسامح الذي لفّ الدستور الاسلامي بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلمون ومن معهم حلف"هذا التسامح الذي يرفضه اليوم كثير من المسلمين، فهو يعترف بكل الديانات ويحميها ويقبل الآخر يفاوضه ويناقشه ولا يصدر له الاحكام تعسفاً، هذا التسامح الذي غاب اليوم عن اذهان الكثير من المسلمين الذين لا يرون غير انفسهم ويرفضون الغير ان خالفهم حتى وان كان مسلماً، حتى انتهت هذه المرحلة بفتح مكة. المرحلة الثانية وتبدأ بفتح مكة واعلان النبي صلى الله عليه وسلم انتهاء الهجرة من مكة الى المدينة، بقوله:"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فانفروا"، وقوله ايضاً:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". بهذا البيان انهى النبي محمد صلى الله عليه وسلم مرحلة الهجرة فالارض ارض الله يعبد الله فيها اين ما كان المرء، من دون الحاجة الى ترك البلاد مهما كانت ديانتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يجبر اليهود والنصارى على الهجرة حتى يصفو البلد له، وتصبح الدولة اسلامية خالصة، ولم يجبر المسلمين خارج الدولة الاسلامية على الهجرة اليها؟، هذا ما نحتاج اليوم الى فهمه من دون ان نقرر ان من يعيش خارج الدول الاسلامية ليس من المسلمين في شيء حتى يهاجر الى بلاد الاسلام، فالرسالة بعد الفتح ان المسلم هو الذي يسلم المسلمون من لسانه من دون ان تطاله احكام المسلمين القائمة على النزعة الشخصية، والتي باتت تكفر المسلمين لمجرد الاختلاف في الرأي، وتهدر دمائهم لأتفه الاسباب، والمهاجر هو الذي يهجر المنهيات، من دون ان يهجر الارض التي تساوت بقاعها في اعلان كلمة الحق بعد فتح مكة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ان من حق المسلم الدفاع عن ارضه وحقه - الذي تنازل المسلمون الاوائل عنه عنوة - فمن حق كل انسان الدفاع عن الوطن واذا استنفرتم فانفروا فلا خروج من الارض ولا اخراج منها، فيجب عندها القتال والدفاع عن الارض. شتان بين من يخلط دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الى المسامحة مع الدعوة الى الاستسلام، وشتان بين من يخلط دعوته الى الدفاع عن الارض مع الارهاب، وشتان بين من يخلط التسامح النبوي مع الاستلاب للآخرين. ان حرص النبي صلى الله عليه وسلم كل الحرص كان ان لا يهدر دم إلا بحقه، وان لا يقوم قتال إلا بحقه. ان حاجة المسلمين اليوم تزداد الى قراءة الهجرة النبوية اكثر من ذي قبل، هذه الحاجة التي تدعو الى قراءة التاريخ، لا الى اعادته، فالتاريخ لا يتكرر ولكن مبادئه ونجاحاته قد يقاس عليها وتتكرر. ان الدعوة هنا لقراءة الهجرة من اجل التعلم منها لا من اجل تحميلها افكارنا وآراءنا طوعاً أو كرهاً. كاتب سوري