على الأرجح، تصف الشاعرة الإماراتية ظبية خميس ذاتها في قصائد"روح الشاعرة"مطبوعات الظبية، القاهرة 2005، ولكنها تشيع أسبابها وهواجسها الفادحة بكل حال، في نفوس شتى إما لأن هذه النفوس تشترك مع ظبية في كيمياء الوهم وكوابيس العيش، واعتبار الحياة مثابة حلم أرعن كافكاوي، أو لأن الشاعرة قادرة من خلال كلماتها على تسريب هذا الإحساس للآخر بعدوى الشعر... الشعر الذي هو مَرض جميل أو، كما تقول في قصيدة"قدر":"تذهب الكلمات من طرف لآخر:/ دواء بعضها/ سمّ بعضها/ وطلاسم من الضباب". هواجس ظبية ذات سرد نثري، إنما شعريتها تنضح من أحوال النصوص أو أحوالها في النصوص. أشكالها وتقنياتها مرسلة... بلا نمط بعينه تدل ملامحه وحيثياته واستداراته الصورية والتعبيرية عليها هي بالذات كما هو الحال في عدد من شعراء قصيدة النثر: محمد الماغوط، أنسي الحاج، عباس بيضون، وديع سعادة، عبده وازن... الخ، فتقنياتها الكتابية تنتقل بها من حيّز لآخر. يلاحظ على سبيل المثال الإلحاح الصوري المنهال كزخّ البرد على زجاج الورقة في قصيدة"المشهد عن قرب"... هنا نعثر وبسرعة وبلا أنفاس تؤخذ بين سطر وآخر"على رذاذ مطر، كابوس مخيلة، هاوية لها مصعد خصوصي ومضات كالسقطات خرافات بيضاء من العاج، كراكيب أزمنة متراكمة، سكين حادة تشطر أمعاء العصيان، خرائب مهولة، حيوانات كانت حبيسة تبقر بطون الهاوية بقايا عظام على الطاولة توابيت لا يغلقها أحد قبور تفتح أفواهها جائعة لرائحة النسيان... ... كلٌ يجرجر وباله... الخ...". كأننا حين نفتح باب القصيدة نكون نفتح باب مقبرة قديمة، أو نستعرض شريطاً لمشاهد الرعب وأسبابه. فثمة في هذا النص إلحاح صور كابوسية أو كراكيب كوابيس. ومن حقها أن تكون نثرية... فالكوابيس لا تكون مكيّفة كما هي كوابيس هنري ميلر في وصفه لأميركا. تلاحظ تقنية الإلحاح نفسها في قصيدتين أخريين في المجموعة: حياة ما، وپ"موت"فالأولى تبدأ بسؤال:"عندما يمنحك أحد ما حياة... ما الذي تفعله بها؟"والإجابة نقرات سريعة متتالية كانفجار أجوبة على سؤال منتظر... وهذه النقرات السريعة تترك على صفحة الروح بقعها السود، غير الأنيقة بالتأكيد، إنما جمالها يرشح من قسوتها. هنا العذاب كمعطى إنساني جميل. كمرض إنما يمنح الجسد والوجه شحوبه الجميل: حبر يسيل على دم لوتس/ صفائح/ عطر محرق/ أدغال من الروح/ مصيدة كلمات/ مسودات/ كآبة تسقط في كأس/ تنين بلسان مشطور زمنين/ مخازن خوف/ جنون كالمطر/ خزعبلات... الخ". ونسأل: إذا كانت هذه هي الحياة فما الموت؟ وننتظر إجابة تأتي من خلال نص يتلو قصيدة"حياة ما"وهو قصيدة"موت ما"، لنكتشف أن الحدود بين الحياة ككابوس والموت ككابوس معدومة... حتى أنك تستطيع أن تنقل أثاث قصيدة الموت الى منزل الحياة، فما هو الموت الذي تسرده الشاعرة بضربات قاطعة ومؤلمة كالسكاكين المغروزة في لحم حي؟. فالصور والأسئلة هنا وهناك تقرقع على ظهر وجود مفترس كأنه تمساح. لا الحياة بين فكيه جميلة ولا الموت مريح وخلاص. هذه التقنية في رصف الصور والمشاهد رصفاً تراكمياً كمياً بلا تعليق أحياناً، لا تتبعها الشاعرة في جميع نصوصها. إنها توضح أحياناً مراميها وتطلقها على صورة خطاب أو طلقة مباشرة تتجه نحو هدف مباشر. مثال ذلك قصيدتها في هجاء أميركا... حيث اللغة ليس فيها مجاز أو تشبيه، تأتي كشتيمة عارية:"أميركا/ التفتي حولك/ لا أحد يحبك/ حتى أطفالك يكرهونك/ أميركا.../ ألا تدركين: ان الطفل يحتاج الى ثدي أمه؟/ والغزالة تحتاج الى عشبها؟/ وأن الجبال تحتاج الى قممها/ وأن البحار بحاجة الى أعماقها...؟:... الخ. فهنا لا مجاز ولا الصورة ولا تشبيه، بل جمل مباشرة وخطابية وعارية... إذاً، هنا تقنية أخرى لكتابة نص شعري بالنثر الحاف... أو الحافي على غرار الخبز الحافي. يهمني أن أشير الى ثلاث مسائل في شعر ظبية خميس، من خلال"روح الشاعرة"... الأولى كافكاوية مناخ هذه الروح. وهي تطل برأسها بين سطر وآخر وبين نص وآخر وبلا هوادة. الحياة ما هي من خلال هذه الروح ومن خلال تحققاتها في النصوص؟ هي"هجوم كومة ذباب على أشلاء جثة"من قصيدة"حياة ما"... ولا وقت لأي فرح أو ضوء. بل ثمة نقاش ضمني في القصائد مع من يدّعون أن الحياة جميلة. تسأل في قصيدة"لماذا":"إذا كانت الحياة جميلة الى هذا الحد/ فلماذا لا أشعر بها؟". فالوجود وجود الحياة في الشاعرة وجود غير مريح تستعمل في وصفه قاموساً من فحيح قصيدة فجوة حيث تتكاثر في النص خلاخيل وخناجر، قبلات من طاعون، فحيح أفاعٍ وأنياب متآكلة لضباع وبنات آوى... وفي استكمال أوصاف هذه الكابوسية، في نصوص الشاعرة، أو في صفحة روحها الطيبة البيضاء تظهر لنا الحياة على صورة"فجوة"، والناس عميان ساقطون في الفجوة، وثمة وهم أسطوري كوحش أسطوري أكبر من الحياة يفترس الحياة"لي صنم من الثمر يأكلني ولا آكله"... وكل ما تدعوه في"روح الشاعرة"يأتي وبكفّه السمّ وتدور في ما يشبه العبث الكوني اليائس أو كأنها تعيش في ما أسميناه"ورشة القتلة"... بالطبع داخل الشاعرة خصب لكنه مخرّب. خارجها جدب وخارجها افترس داخلها... وترسم حياتها على صورة لوحة بمثل هذه الملامح، حتى لكأنها رسامة من رسامي المدرسة الكابوسية الألمانية، أو كأنها فرنسيس بيكون المصاب بقرف العالم وبحالة من الجسد المنبعج دائماً على مغسلة... انبعاجاً مرضياً... للقيء... فمطبات ظبية غير رومانسية فادحة موجعة وأستطيع أن أسجل انني أحب أحوالها المرضية هي التي تستقبل العام الجديد بطلب منه أن يتريث لأن الذي جاء قبله ترك الكثير من الأشلاء... ولأنها على عمود النار تقف ولأنها سوف تقفل النوافذ دونه من شدّة خوفها... في قصيدة بعنوان"سواد"تقول روحي"سوداء منهكة"وتتعامل مع الوجود كأنه خطأ ما وقع في لحظة خلق ما، ولا رادّ له... فأن تعيش معناه أن تشهد على الخطأ أن تحمله معك أن تمارسه كما تتنفس... فهو خطأ ملح وعنيد، أشد عناداً من بغل... وحتى الهروب منه، نحو الهاوية لا ينجي... أما نحو الله، فثمة هروب تشير اليه ظبية بقولها"البيوت الزوايا/ دهاليز تأخذك نحو الله...". "ترتدي طينك لأول مرة"... لكن ذلك ليس الروح الشائعة في نصوص الشاعرة. هي استثناء هروبي وحيد ومعزول في المجموعة... إنها في الحقيقة قفر وموحشة وتجرجر وحدتها كما يجرجر الكلب عظمة من قارة لأخرى على قولها في قصيدة حال السبيل. هذه هي الروح الشاعرة في قصائدها. وهي الموصوفة أولاً... المسألة الثانية تتعلق باستخدام ظبية لبعض المجاز والتشبيه والصورة المواربة في كتابتها... تواجهك أحياناً باستعارات حادة مثل:"إسفلت الأحاسيس"،"رذاذ المشاعر"، وتشابيه من نوع"الوهم الحيّ"،"في مصيدة القصيدة يقشّر الشاعر قلبه كالقرد"... كما تستوقفك صور ضاربة أو لا يمكن تجاوزها من دون أثر لها في النفس:"هاوية لها مصعد خصوصي"،"خرافات بيضاء من عاج"،"لا مرآة ترى ذلك الذي أراه"... الخ. وهذه الاستعارات والتشابيه والجمل الاستثنائية لا تشكل قاعدة الغالبية في النصوص. هي جواهر مبذورة في حقل شاسع... لذلك ليس في إمكانها أن تشكّل خصوصية ظبية... ولو أنها استطاعت رصّ الكثير الغالب منها في قصيدتها لكان لها خصوصية مرجوة والشاعرة، في ظني، قادرة على حيازتها، نظراً لجيشان أحوالها، وغناها الداخلي... ولكمية الألم واليأس الباهظين في روحها... لكن الشعر ليس هنا فحسب، بل هو في الصيغة واللغة، الصورة والتقنية والبناء... الشعر في آخر المطاف هو القصيدة... بل نقول إن القصيدة كبُنية وتقنية... لغة وبناء وإيقاع تدخل في صراع ضروري مع الشعر... فإما يصرعها"الحال"ويفيض عنها، وإما تروّضه. وهذا هو على ما نرى، فحوى جملة النفري"كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة"والعكس صحيح أيضاً"كلما ضاقت الرؤيا اتسعت العبارة". المسألة الأخيرة التي نرغب في الاشارة اليها في قصائد ظبية، هي بعض روائح وعبارات وشروط المكان... فالشاعرة إماراتية من الإمارات العربية المتحدة لكن أماكن كتابة قصائدها تراوح بين الشارقة والقاهرة ونيودلهي في الهند. تكتب كلمة"عِطْني"أي"أعطني"كتابة عامية محلية، وتئن من كوابيس كثيرة ربما تولدت من تناقض صعب بين روحها الحرة المتوثبة والوضع الاجتماعي المحافظ... أشم في قصائد ظبية ألماً مضاعفاً وتوقاً مأسوياً للشرط البشري للمرأة:"حتى الدموع لا تخرج بسهولة من محاجرها".