يعتبر باليه"بحيرة البجع"للموسيقي الروسي تشايكوفسكي اشهر عمل من نوعه في تاريخ الموسيقى. اذ، حتى الذين لا باع لهم في هذا النوع من الفن، والذين بالكاد يمكنهم ان يفرقوا بين الباليه والرقص الشعبي، أو بين الباليه وهز البطن، حدث لهم، غير مرة في حياتهم ان سمعوا ب"بحيرة البجع"أو تحدثوا عنه.. بل ليس غريباً على مدمني بعض الموسيقى العربية الكلاسيكية، حين يحدث لهم ان يصغوا الى موسيقى"بحيرة البجع"، ان يتعرفوا في ثنايا جمله الموسيقية على"الحان عربية"يعرفونها. وطبعاً من البديهي ان هذا لا يعني ان تشايكوفسكي هو الذي نقل عن موسيقيينا العرب و"استوحى"اعمالهم. المهم ان"بحيرة البجع"طغى على غيره من اعمال هذا الفنان الروسي الكبير، بحيث ان البعض خيّل اليه انه لم يكتب في حياته سوى تلك الجمل. ولسنا في حاجة، طبعاً، الى ان نقول ان هذا الكلام غير صحيح. بل حتى في فن الكتابة للباليه، انتج تشايكوفسكي اعمالاً كبيرة، ربما تفوق بعضها حتى على"بحيرة البجع"من الناحية الفنية الخالصة، علماً أن شيئاً ما خلال العقود الاخيرة، اعاد الاعتبار الى بعض تلك الاعمال كاشفاً عن اهميتها. ومن المؤكد ان باليه"كسارة البندق"لتشايكوفسكي يقف في طليعة هذه الاعمال التي نشير اليها هنا، ولن يفوتنا، ضمن هذا الاطار ان نذكر ان"بحيرة البجع"اضطر منذ زمن الى ان يتنازل عن مكانته الاولى لمصلحة"كسارة البندق"ولم يكن في هذا ظلماً له. "كسارة البندق"باليه كتبه تشايكوفسكي في فترة الذروة من حياته، وهو يحمل الرقم 71 في سياق اعمال هذا الفنان، وقدم للمرة الاولى في سان نطرسبورغ، وكما هي حال"بحيرة البجع"استقى تشايكوفسكي موضوع"كسارة البندق"من حكاية شعبية قديمة كان الكاتب الرومانسي الالماني هوفمان اول من التفت اليها واعاد كتابتها، انما في سياق سيبدو طويلاً جداً ومتشعب الاحداث، اكثر من اللازم، ان نحن قارناه بالسباق المدني في الباليه كما انتهت صياغته على يد المؤلف الموسيقي الروسي الكبير. ذلك ان الحكاية، التي تغوص في عوالم شديدة الغرابة والتركيبة، تحولت هنا، في الباليه، الى فصلين وثلاث لوحات لا اكثر. فتشايكوفسكي، لكيلا يلحن عملاً يستغرق تقديمه ساعات عدة، كثف الاحداث مستلهماً منها ما يساعد على تقديم سلسلة من الرقصات الجماعية والفردية التي تتوقف، في تعبيرها، عند النقاط الاساسية... وهو تمكن من هذا من دون ان يغيّب عن سياق الاحداث اياً من التفاصيل المهمة، ثم بعد هذا اعطى للعمل اجواء موسيقية متتالية ومتنوعة، تتلاءم مع رقصات تعبيرية تكشف الاحداث وعلاقات الشخصيات. ومن هنا مع المحافظة على تسلسل الاحداث وسياقها، يجب الا يدهش المرء اذ يقارن الباليه كما يشاهده، بالحكاية كما يمكن ان يقرأها. المهم في هذا، اذاً، ان تشايكوفسكي قدم في نهاية الامر تفسيراً عاطفياً، لا يخلو في الوقت نفسه من واقعية في الرؤية وفي رسم العلاقات، لعمل كان في الاصل رومانسي. فما هو الموضوع في"كسارة البندق"؟ انه المجابهة بين الحلم والواقع، في المقام الاول. وهذا الموضوع يقدم الينا في الحكاية كما في الباليه من طريق شخصيتي كيارين وفريتز اللذين يتلقيان في البداية هدايا عدة لمناسبة عيد الميلاد. ولكن فيما تأتي الهدايا في الحكاية من شخص شرير غريب الاطوار يرعب الولدين ليكتشفا لاحقاً ان لرعبهما ما يبرره، تأتي هذه الهدايا نفسها في الباليه من جد الولدين، وهو سيد الماني محترم. اما الهدية الرئيسة بين الهدايا - وهي ستكون محرك الاحداث بالطبع - فهي كسارة بندق غريبة من نوعها تأتي على شكل دمية رجل ذي فكين كبيرين ويكسّر البندق بين هذين الفكين. وبعد مشهد اول تخرج فيه من سلة الالعاب دمية حسناء وجندي يقومان معاً برقصة لطيفة يحل الليل. وبعد منتصف الليل يحدث ان الصغيرة كيارين تنهض من نومها وتزور الالعاب لترى كيف ينام الرجل - كسارة البندق، فتفاجأ بأنه قد كسر اسنانه بفعل بندقة كبيرة قاسية كسرت بين فكيه. غير ان هذا لا يكفي، اذ سرعان ما تلي ذلك معركة بين الفئران وبين الدمى تعنف شيئاً فشيئاً على وقع الموسيقى، قبل ان تحدث امور غريبة ابرزها ان الرجل - كسارة البندق يتحول في شكل مفاجئ الى امير فاتن تغرم به كيارين وتصحبه في رحلة ليلية الى منطقة بعيدة منها بلاد الجن.. وهما اذ يطيران فوق شجرة ميلاد براقة وفوق مناطق تتساقط فيها الثلوج على وقع موسيقى ورقصة فالس رائعة، يقصدان في نهاية الامر قصر الجن.. حيث تقام الرقصات والاحتفالات وتُكرم كيارين تكريماً استثنائياً وتقدم اليها قطع الشيكولاته على وقع الالحان والرقصات المتنوعة التي تؤديها شخصيات معروفة مستعارة من حكايات اخرى الام البجعة، وبوليشينال... الخ. اما الخاتمة فتكون عبر رقصة احتفالية كبيرة يشارك فيها الجميع، وتبدو في كل لحظة، من ناحية الرقص والتمثيل، كما من ناحية الموسيقى متأرجحة بين الحلم والواقع في عالم من الفرح الخالص الصاخب. من الواضح ان هذا كله يعطي العمل طابع الترفيه الخالص. والحال ان موسيقى تشايكوفسكي أتت هنا لتركز على هذا البعد، فهنا ليس ثمة مسار نحو خاتمة وعظية، والموسيقى لا تتضمن أي برنامج دلالي معين، انها موسيقى تتنقل وتنقل معها الرقص من احتفال الى آخر، ومن ترفيه الى ترفيه قاطعة على المستمع المتفرج انفاسه، غير تاركة له اية لحظة من دون ان تغمره بمشاعر طفولية تنضح بالبراءة. ولقد كانت هذه نية تشايكوفسكي منذ البداية، أي منذ اقترح عليه صديقه مصمم الرقص الفرنسي بيتيبا، فكرة تحويل تلك الحكاية الى باليه. اذ انه على الفور وجد الفرصة ملائمة لتجديد التجربة التي كان خاضها، قبل فترة، مع باليه ترفيهي خالص، ومشابه هو"حسناء الغابة النائمة"الذي شكّل اول تعاون له مع فرقة الباليه الامبراطورية من سان بطرسبورغ. وهكذا تبع تشايكوفسكي النبض الغرائبي للحكاية جاعلاً من الموسيقى عنصراً يقود الحركة الشعورية كلها، مكيفاً الالحان مع مكنونات المشاعر التي تثيرها الاحداث في شكل يخاطب القلوب اكثر مما يخاطب العقول، بحيث تلغى هنا اية مرجعية معرفية ليقدم العمل وكأنه نبتة شيطانية طالعة من ذاتها... غير ان ما ينبغي اضافته هنا هو ان من مزايا هذا العمل ايضاً، ذلك التوزيع الاوركسترالي المبدع والغريب، الذي كانت نادرة لحظات يتيح فيها للآلات الوترية خاصة، ان تستريح، فهي هنا في حركة متواصلة باثة قدراً كبيراً من المشاعر.. ما وسم العمل كله بطابع بدت معه الموسيقى وكأنها تنتمي الى المتتابعة السيمفونية، بقدر انتمائها الى عالم الباليه. ويبدو هذا واضحاً من خلال توزيع المتتاليات، اذ بعد الافتتاحية التي كثيراً ما تعزف وتحب بمفردها تأتي تباعاً الرقصات متتالية، من مارشات ثم رقصة الجنية دراغون تنين ثم الرقصة الروسية أو رقصة"تريباك"فالرقصة العربية، ثم الصينية، وصولاً الى اجمل قطع الباليه"فالس الزهور"الذي لفرط نجاحه وشعبيته يعتبر عادة الاب الشرعي لكل انواع الموسيقى الراقصة الخفيفة في تاريخ موسيقى القرن العشرين. والحال ان هذا كله لم يكن لا غريباً ولا عسيراً على بيوتر تشايكوفسكي 1840 - 1893 الذي يعتبر واحداً من ثلاثة او اربعة فنانين كبار، جعلوا للموسيقى الروسية مكانة اساسية في ذلك الزمن النصف الثاني من القرن التاسع عشر وواكبوا بموسيقاهم التطورات التي طرأت على المجتمع الروسي ناقلة اياه من مناخات هجينة بدائية الى ذروة الرفاهية والاناقة. واذا كان باليه"كسارة البندق"يرمز الى امر معين، فانه يرمز تحديداً الى هذا الانتقال.