أصدر البنك الأهلي الأردني حديثاً، ضمن سلسلة الأعمال الكاملة للكتاب الأردنيين، المجموعة الكاملة للكاتب والروائي والقاص سالم النحاس في مبادرة تضع بين أيدي القراء أعمال كاتب أردني عرفه القراء رجل سياسة يمارس الكتابة في الأوقات التي يسرقها من لحظات عمله السياسي. وتوضح الأعمال المنشورة لسالم النحاس في هذه السلسلة عمق تجربة هذا الكاتب وفرادتها. ما يلي مقالة تتناول عمله القصصي. نشر سالم النحاس في السنوات الأولى من ثمانينات القرن الماضي مجموعتين قصصيتين هما"وأنت يا مأدبا"و"تلك الأعوام: مقتطفات من حياة دروبي عواد". ويبدو تصنيف فصول هذين الكتابين إشكالياً بسبب تداخل النوع القصصي مع النوع الروائي، وإصرار الكاتب على وصف ما يكتبه مرة بأنه قصص ومرة أخرى بأنه قصص قصيرة، موجهاً القارئ لكي يتعامل مع ما يقرأه بصفته نصوصاً قصصية لا تشكل سياقاً سردياً تتسلسل أحداثه، وتتطور حبكته، وتعاود شخصياته الظهور من نص إلى نص. لكن هذين الكتابين القصصيين يوفران في الحقيقة أرضية صلبة للنقاش حول انتمائهما إلى أي من النوعين السرديين، استناداً إلى بؤرة التركيز في السرد وقطع سياق النص عما سبقه من نصوص، وهو ما يسلك هذه الكتابة في النوع القصصي، أو من خلال بناء النصوص جميعاً حول شخصيات بعينها وتكرار ورود الأسماء والأماكن والأزمنة نفسها، إضافة إلى الإشارة بين حين وآخر إلى ما فعلته شخصية من الشخصيات في حدث سابق، ما يشكل إضافة للنص الجديد المكتوب على أثر النص المشار إليه. ومن الواضح أن النص بذلك يدخل في عالم النوع الروائي، على رغم الإنقطاعات وعدم تطوير الحبكات السردية والاكتفاء بالوصف الموجز للشخصيات والأحداث. يعمل سالم النحاس في"وأنت يا مأدبا"على تركيز السرد حول شخصية بعينها يتابع حركتها ونضجها في الزمان، وسعيها في المكان. ومع أن النصوص، التي يتضمنها الكتاب، تبدو مستقلة بذاتها، لا يجري تطويرها وتوسيع عالمها وجعلها تتسلسل وتتوضح سياقاتها. إلا أن وجود يوسف، الشخصية المركزية في"وأنت يا مادبا"، في بؤرة هذه النصوص يقترب بها من السرد الروائي ويبتعد عن عالم القصص الموجز المكثف المقتصد الذي يهدف إلى تصوير حركة مفردة وكون ضيق من الأحداث والشخصيات. وما يسميه سالم النحاس"افتتاحية"في الكتاب، هو بمثابة توطئة لما سيحدث في فصول الكتاب التالية، وإشارة تجري على لسان غجرية تقرأ الطالع، لكنها تمسك عن الكلام عندما ترى كف يوسف. تؤدي افتتاحية"وأنت يا مأدبا"إلى نص يرسم"دائرة في الأفق"ويفضي بيوسف إلى الكون بأكمله. رواية التكوين هذه تمكن الشخصية المحورية في"القصص"إلى تلمس العالم من حوله، ومحاولة التعرف الى هذا العالم من خلال تحسس مجسم الكرة الأرضية الذي جلبه الأستاذ سامي إلى غرفة الصف ليشرح للطلبة جغرافية الأرض. لكن تلك الكرة الجاثمة على الطاولة تثير في نفس يوسف رغبة عارمة في التعرف الى كل ما حوله، على جغرافية البلدة، وطرقها وجدران منازلها ومئذنتها وجرسية كنيستها، محاولاً أن يشرف على الكون من علٍ لعله يراه على وسعه. وتتحقق هذه الرؤية الرمزية في الفصول التالية حيث يؤدي موت الجد إلى رعب هائل يشل أطراف يوسف، كما يفضي به التلصص على عالم النساء وأجسادهن البضة إلى الوقوع أسيراً في أيديهن يعبثن به ويحاولن التأكد من رجولته. وتمهد اللوحة القصصية، التي يرسمها الكاتب لمراحل نضج الفتى يوسف وتفتحه على دنيا الجسد وشواغله، لنصوص أخرى ترسم تعرف يوسف الى تجارب وخبرات أخرى: مزيج الخوف والفرح الذي ينتابه وينتاب عائلته عندما ترعد الدنيا ويلمع البرق في ليلة شديدة المطر، اضطراره بسبب الفقر لادعاء اليتم صامتاً مرتعداً أمام الضابط الذي يوزع القمح الذي أكله السوس منحة للفقراء من أهل البلدة، سهر أبي جريس في ليلة القدر ليستجيب الله لأمنياته العظيمة وموت بقرته وهي تلد، الحكاية الألليغورية ذات البعد المجازي الرمزي عن الكلب فرهود الذي امتنع عن الحراسة فناله من الضرب والإهانة أكثر مما نال من امتنع عن حراستهم من الأهالي، وصندوق العجب الذي هرع يوسف للتفرج عليه فعاد إلى البلدة ليجد الشرطة تأخذ الأستاذ سامي مكبلاً، فما كان منه ومن رفاقه إلا أن هاجموا الشرطة بكل ما وصلت إليه أيديهم من أدوات ثقيلة وحطموا سيارتهم، قبل أن ترحل الشرطة حاملة معها الأستاذ سامي المتهم بالعمل السياسي، وأخيراً محاولة الصبي يوسف ركوب الباص ليرى كيف يكون العالم خارج مأدبا وسقوطه على الإسفلت وكسر يده. تلك الأحداث كلها تلخص سيرة تكوين الصبي يوسف وتفتح وعيه على العالم من حوله. وبهذا المعنى فإن فصول"وأنت يا مأدبا"العشرة تشكل في وجه من وجوهها قصصاً قصيرة قادرة على الاستقلال بنفسها كل منها عن الأخرى، أي أن السمات النوعية للقصة القصيرة متوافرة فيها من حيث طول الشريط القصصي والإيجاز والتكثيف ودوران الحكاية حول شخصية واحدة أو عدد قليل من الشخصيات، ومن حيث استخدام لغة أقرب إلى المجاز لاختزال وصف شخصية من الشخصيات، وأخيرا لجوء هذه النصوص إلى إقفال المشهد وتحسيس القارئ بنهاية الحدث وحصول العبرة في نهاية كل حكاية. إن نصوص"وأنت يا مأدبا"تبدو في هذا السياق أقرب إلى القصص القصيرة. لكن وجود شخصية مركزية تتكرر في القصص، وعرض الكاتب لجانب واحد من تطور تلك الشخصية في كل نص من النصوص، وتوسيع الكاتب، في نص لاحق، عدداً من الأحداث والإشارات الواردة في نص سابق، ودوران القصص جميعاً في الفضاء المكاني والزماني نفسه، كل ذلك يوفر ل"وأنت يا مادبا"سياقاً روائياً. تلك الأعوام في"تلك الأعوام: مقتطفات من حياة دروبي عواد"ثمة إشكالية أكثر تعقيداً من تلك التي نصادفها في"وأنت يا مأدبا"، فإذا كان الكتاب الأخير يتضمن نصوصاً قصصية تتصل من حيث الشخصية المركزية وتسلسل الأحداث، فإن"تلك الأعوام"تستخدم أساليب سردية مختلفة، وتضيف إلى الحكايات نصين مسرحيين، ما يجعل هذه النصوص عملاً مركباً يمزج بين الأنواع، ويستخدم طرائق وأساليب يجلو من خلالها الكاتب شخصية دروبي عواد التي تقع في بؤرة العمل يصور عبرها السياق السياسي الاجتماعي لمرحلة تاريخية بعينها تبدأ في السنوات الأولى من القرن الماضي وتنتهي في سبعيناته. وعلى رغم حضور يوسف، كشخصية ثانوية في"تلك الأعوام: مقتطفات من حياة دروبي عواد"، إلا أن تركيز العمل على دروبي عواد ينفي عن هذا العمل سمة الرواية التي تعنى بتكوين الشخصية ونضجها. فعلى النقيض من"وأنت يا مأدبا"تبدو"تلك الأعوام"نصاً روائياً يدور حول شخصية هي أقرب إلى شخصيات الشطار، فيها منهم الحنكة والقدرة على التخلص وكسب العيش بكل الطرق والسبل المتاحة. وينعكس هذا على تركيب النص وتوالي فصوله، وكذلك على طبيعة تصوير الشخصية المركزية فيه، ومن ثمّ على اقتراب هذه الفصول من نوع القصة القصيرة أو من النوع الروائي. يبدأ الفصل الأول من الكتاب بتصوير ولادة دروبي عواد على البيادر، في الطريق، ما يجعلنا نتوقع مسارات الشخصية وأشكال اشتباكها مع الحياة. إن اسمه الذي أطلق عليه يؤهله للاقتراب من شخصية الشطار وأبناء الحياة. ويمكن أن نعد الفصل الأول من"تلك الأعوام"تمهيداً للحكايات التالية التي بطلها دروبي عواد، الذي يطلق عليه الكاتب في ما بعد"أبو الحصيني"في إشارة إلى دهائه وحسن تخلصه وقدرته على تحصيل رزقه بالحيلة والذكاء. لكن هذا الفصل لا يقوم بنفسه كقصة قصيرة بسبب نهايته المفتوحة ووعده باستكمال حكايات هذا المولود الذي سقط من رحم أمه على قارعة الحياة. وتتوالى في الفصول اللاحقة حكايات دروبي عواد الذي أشعل النار بسوط الخوري وأكمل بلطمه على وجهه، ثم ترك المدرسة هارباً إلى الطريق مسلحاً بدهائه وصلابة عوده. ويمكن تفسير الفصول التالية حيث يضرب دروبي عواد الفارس التركي ويدعي الجنون، ويحاكم بعدما أصبح جندياً في الجيش بسبب كلامه في السياسة، ويحترق بيته لأنه استعمل البنزين في الوابور بدلاً من الكاز، وحكايات كثيرة أخرى تشير إلى الفقر الشديد الذي يغلف الفضاء المكاني والزماني الذي تتحرك فيه الشخصية استناداً إلى الفصل التمهيدي الأول، إذ من دونه يمكن النظر إلى هذا الكتاب بصفته مجموعة من القصص القصيرة كما هو مكتوب على غلاف الكتاب. لكن قدرة الفصل التمهيدي على إضاءة ما سيحدث في الفصول التالية يسلك"تلك الأعوام"تحت عباءة النوع الروائي. لكن مشكلة تعترضنا عندما نصنف هذا العمل في نسق النوع الروائي، وهي استخدام الكاتب نصين مسرحيين يعتمدان بصورة أساسية على الحوار وشرح المشهد. النص الأول يصف محاكمة دروبي عواد لاعتدائه على واحد من المرابين الذين تحميهم الشرطة، والنص الثاني يصور محاكمته مرة ثانية من قبل محكمة عسكرية بسبب كلامه في السياسة وشهادة أحد زملائه عليه. ويهدف هذان النصان المسرحيان القصيران إلى الإشارة إلى شجاعة دروبي عواد، وجلاء الواقع السياسي الاجتماعي من حوله. هناك أيضاً شكلان آخران من الكتابة يقوم سالم النحاس باستخدامهما في"تلك الأعوام": الأول هو أسلوب المذكرات التي تجيء على لسان الضابط البريطاني الطيار جون ماك دونالد الذي يروي عن ذهابه في رحلة ترفيهية مع عدد من زملائه إلى حمامات ماعين، ويتعرض للرجم بالحجارة مع زملائه، والثاني هو أسلوب الرسالة التي يكتبها بيدر مستعطفاً ويفترض دروبي وصديقه أبو محمد أن ترسل إلى هنري جويس مدير المبيعات في شركة سبنسر وصاحب المعطف الذي حصل عليه أبو محمد من المؤن، لكن بيدر يعيد كتابة الرسالة مهاجماً فيها هنري جويس والاستعمار. الغاية من هذه الأساليب المقترضة من النوع المسرحي، ورواية المذكرات، ورواية الرسائل، هي إغناء النص وتوسيع دائرته النوعية. لكنه يظل أقرب إلى النوع الروائي منه إلى القصص القصيرة، فهو يشتمل، كما أوضحنا، على فصول مسرحية مفردة، وعلى مقتطف من مذكرات، وتعليق على هذه المذكرات، كما يشتمل على رسائل ورسائل مضادة. وبما أن أسلوب التضمين، وتوسيع دائرة النوع، وخلق حبكات موازية في النص، هي من بين سمات الرواية، لا من سمات القصة القصيرة فإن وصف"تلك الأعوام: مقتطفات من حياة دروبي عواد"بأنها قصص قصيرة، مخالف للعرف النقدي ولنظرية الأنواع، ولنظرية الرواية التي تسعى الى ان تكون مزيجاً من الأنواع، نوعاً غير قابل للاكتمال، كما يرى ميخائيل باختين، ونسيجاً يقترض من كل الأنواع المجاورة له، لكنه يحتفظ بسماته الأساسية.