لم يعوض العمر المتقدم للملحن والمطرب عباس جميل الذي توفي قبل أيام، الإحساس بخسارة فادحة يتعرض لها الفن العراقي المعاصر عموما وموسيقى بلاد الرافدين خصوصاً. فالراحل الذي ولد في محلة شعبية وسط بغداد في العام 1921، كان من النوع الذي لا يعوض لجهة الوفرة النغمية التي أنتجتها وطبعت خريطة الغناء العراقي لأكثر من نصف قرن. فإلى جانب الغناء البغدادي وألوانه اللحنية المرهفة، تمكن جميل من ابتداع عشرات الألحان الريفية التي صاغها ببراعة لتناسب خامات صوتية: من المطربة زهور حسين وتشكيله معها ثنائياً وصف بأنه النسخة العراقية من" القصبجي- أم كلثوم"إلى صوت سليمة مراد مروراً بصوت المطربة وحيدة خليل. الملحن عباس جميل شيد بناء غنائياً عراقياً معتمداً على قاعدة"السهل الممتنع"، فجاءت ألحانه قريبة من مشاعر الناس لكنها ظلت تشع عقوداً من الزمن لما حفلت به من طرق لحنية هجست بالمعاصرة على الرغم من أن كثيراً منها شاع في خمسينات القرن الماضي وستيناته وصولاً إلى السبعينات مع زهور حسين، وحيدة خليل، عفيفة اسكندر، سليمة مراد، أحلام وهبي، مائدة نزهت، سعدون جابر، صلاح عبدالغفور وأمل خضير وغيرهم من مطربات العراق ومطربيه. الراحل جميل اعترف في حديث صحافي:"خلال حياتي الفنية التي تجاوزت 55 عاماً تمكنت من إحداث تغيير بسيط في الأغنية العراقية ولكنه كما يراه المهتمون، تغييراً مفصلياً، وأصبحت الأغنية ذات موضوع يعالج نصاً ولحناً وتوزيعاً، بعد أن كانت بناء لحنياً سهلاً يعتمد مرافقة النص الشعري". وفضلاً عن"التغيير البسيط المفصلي"الذي أحدثه في الأغنية العراقية، فإن من النادر أن يوجد ملحن عنى ب"روحية عراقية في الأغنية"مثلما عنى بها عباس جميل، الى حد أن أنغامه التي صقلت صوتي المطربتين وحيدة خليل وزهور حسين يمكن أن تكون نموذجاً لافتاً لما عرف بالغناء الريفي المتطور. وألحانه تبدو قادرة حتى اليوم على نقل إحساس المستمع إلى بيئة ريفية مشبعة لكن عبر وسط نغمي ينتمي إلى البناء اللحني المعاصر الذي كان الراحل خبره عبر دراسته في"معهد الفنون الموسيقية"أواخر أربعينات القرن الماضي. هذا الجانب في صوغ"روحية عراقية في الغناء منفتحة على المعاصرة"تدعم عند عباس جميل معرفته بألوان"المقام العراقي"فضلاً عن معرفته بعيون الموسيقى العربية كما في أعمال محمد عبدالوهاب، سيد درويش، زكريا أحمد، رياض السنباطي ومحمد الموجي. ولم تترجم تلك الروحية العراقية مثلما ترجمت في ألحانه التي باتت ممر اكتشاف أصوات مثل صوت المطربة عفيفة اسكندر في أغنية"أصيحن آه والتوبة"والمطربة زهور حسين في اغنية"أخاف أحجي"التي حول فيها مسار غناء صاحبة البحة الآسرة من الميزان الثقيل إلى الميزان السريع، والمطربة وحيدة خليل في أغنية"على من يا قلب تعتب على من". وفي حين حمل موسيقيو العراق الأسبوع الماضي نعش عباس جميل فانهم كانوا يحملون ارثاً عميقاً في اللحنية العراقية. ارث امتد أكثر من نصف قرن، قدم نبعاً من انغام تنتمي الى البيئة العراقية الحقيقية، كما انهم كانوا يشعرون بأن هذا الارث سيظل حاضراً عبر ابنه المطرب فيصل وابنته عازفة الكمان سحر التي تمتلك إحساساً مرهفاً من خلال تعاملها مع الآلة عبر دراستها في"معهد الدراسات النغمية". توفي عباس جميل وترك فراغاً حقيقياً مع موسيقيين ابتعدوا اليوم عن أي تجديد أو تجارب تسهم ولو قليلاً في تطوير الأغنية العراقية.