قليل مما يعلنه الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، بخصوص اسرائيل وفلسطين، هو كلام حق، ومن هذا الحق ان اسرائيل احتلت فلسطين وانها تمكنت منها بفضل الغرب. اما الكثير مما تبقى من أقواله فقنابل صوتية مدوّية تحرق عقل من يصدقها"خاصة عندما يصل الرئيس الايراني الى"الحل"، حل هذا الظلم التاريخي: ب"إحراق"اسرائيل، او تدميرها، او اعادة إرسال الاسرائيليين الى بقعة من بقع اوروبا... حلول في غاية الجاذبية للقلوب المكسورة المنتظرة عناية السماء. فالجمهورية اسلامية مقدسة. واقوال رئيسها، الفقير،"الآدمي"والمتواضع، فيها من البراءة والبساطة المزيفتَين ما يكفي بالضرب على الوتر العربي الأضعف: وتَر العجز امام اسرائيل واميركا، وإنعدام القدرة على اية مبادرة، اية حركة. هل يتذكر احدٌ منا كلاماً كهذا؟ إحراق، اغراق، تدمير؟ وعلى ألسنة عربية سالفة؟ من يتذكر، حتما سوف يرى الجانب الكاريكاتوري في هذه"الحلول". فأن يطلع علينا كل عقدين، او اقل، زعيم يريد"إحراق"او"إغراق"اسرائيل، فهذا ما تكرر على امتداد تاريخنا المعاصر. ونطلع بعد كل محرقة من هذه المحرقات... مُحترقين بنارنا ونار أعدائنا. واما ان نصدقه، فهذا مدعاة للمزيد من الهزل. ففي هذه الحالة، ليس الرئيس الايراني وحده، بقنابله الصوتية، من يكرر التاريخ ويحوله، وللمرة العاشرة، الى مهزلة. بل نحن ايضا نكرر المهزلة بتكرار تصديقنا لهذه النيّة الهوجاء"والمتعارضة جذريا، في هذه الحالة، مع"الدهاء"و"التقيّة"الفارسيَين. أن يكون في نيّة نجاد محاربة اسرائيل، قبيل احراقها او اغراقها.... أمر صعب تصديقه. اما ما يجب تصديقه، فهو ان ايران تنوي فعلا امتلاك القنبلة النووية. الآن: هل يحق لإيران امتلاك هذه القنبلة؟ الجواب لا يخص فلسطين او اسرائيل فحسب، بل يعني ايضا الخليج والهند وباكستان وكوريا الشمالية ايضا... اكثر من ذلك: انها من اختصاص منطق القوة في العلاقات الدولية والاقليمية. من يحق له امتلاك القنبلة النووية وفق هذا المنطق؟ الاقوى من بين الأمم. وايران بالقنبلة النووية وضعت نفسها على نفس سكّة الأمم"القوية". فالمشروع النووي لم يعُد ركنا من اركان شرعية المحافظين الممثلين بنجاد. بل اصبح مشروعا قوميا تلتف حوله كل التيارات، الاصلاحية منها وبعض المعارِضة التي تحلم بأن تولد القنبلة في عهدها. تلك هي محصلة التاريخ الايراني الاسلامي المعاصر: شرعية تتجدد عبر إعلاء القومية الفارسية بالذهاب الى الموت الطوعي وعبره الى جنة مؤكدة حرب الخليج الأولى. وهي تتجسد في هذه اللحظة بقنبلة نووية، يحق لها ان تمتلكها، طالما سمحت لنفسها بذلك، وكانت لها الطاقة والمقدرة الكافية على صنعها لولا"الكيل بمكيالين"الشهير!. فالوقت وقتها الآن، وثمة خيوط اقليمية ودولية بيدها، فوق النفط والقداسة. اما العرب، من جهتهم، فيحق لهم أن يخشوا القنبلة النووية الايرانية، وان لا يصدقوا نواياها"التحررية"بخصوص فلسطين. لِمَ؟ أولاً، لأن ايران لها طموحات قديمة وشديدة في الهيمنة والتصدير تصدير"الثورة"، الحيّ من جديد. كان هذا تاريخها الشاهنشاهي، وها هو حاضرها. ايام الشاه، كانت شرطيا اميركيا حارسا لمصالحه، بصفتها الدولة صاحبة العسكر الاقوى في الاقليم. والآن تتهيأ ربما لدور اعظم بعد تحسين شروط الشرطية عبر القنبلة النووية. ليس سرا الآن انها بسطت يدها على قسم من العراق، وهي قابضة على قسم آخر من لبنان وعلى فصائل اسلامية فلسطينية الاكثر استراتيجية في"المواجهة""ولا احد يعرف تماما اين ترسل الذين تدربوا على يد حرسها الثوري التدريب ايضا متعاظم، خاصة ان جلّ رجال نجاد ووزارئه من الحرس الثوري.... ومن المؤكد ان طاقة طهران على الهيمنة سوف تتوسع وتقرر مصائرنا ما شاء لها ذلك اذا اضافت الى قوتها وثرائها الحاليَين قوة تدميرية حاسمة لا تُردع: القنبلة النووية. بين نووي اسرائيلي ونووي ايراني، الاول بطموح مستجد عمره نصف قرن فقط، والثاني بطموح تاريخي وقنوات مذهبية ميسّرة... الاول العدو والثاني"الصديق"الذي قد يتحول الى"شقيق"ايضا... هل بوسعنا تصور حالنا منقسمين، موزعين، مهدَّدين... بخبث او بوضوح؟ ولكن، قبل ان نبلغ هذا المبلغ، اي قبل"غرق"اسرائيل وصناعة ايران لقنبلتها النووية، هناك الخطر الراهن: خطر الربط بين القنبلة النووية وبين احقاق الحق الفلسطيني والعربي ضد اسرائيل... اثناء السعي من اجل القنبلة. من اين الخطر؟ وعبر من؟ وبسبب ماذا؟ الخطر يأتي عبر الذين يصدقون أو يريدوننا ان نصدق بأن القنبلة هذه هي في خدمة"اهدافنا القومية"، او على الاقل لحمايتها. والاعلام الرسمي الايراني لا يتوقف عن الربط بين الاثنين. نادرا ما يمر مقال او تعليق أو تصريح"نووي"، إلا وتُذكر فلسطين والحقوق المهدورة. جمل من قبيل:"أليس من المألوف والطبيعي ان تطالب كل دولة بحقها في اقتناء ارقى التقنيات ... هل تقادم الزمن على حق مضيع لشعب الفلسطيني مظلوم يجعل الظالم محقا ومطالب الحق"خارجا"على"قواعد"اللعبة الدولية؟". صحيفة"الوفاق"الصادرة عن وكالة انباء الجمهورية الاسلامية الايرانية. من اين الخطر ايضا؟ بعد ذلك؟ من الحق الذي تمنحه ايران لنفسها بأن تقرر مصير الذين صدّقوها... فها هي تجدّد دماء"المقاومين"و"الممانعين"بالتدريب على السلاح والتفجيرات على يد حراس الثورة: وتمنح قيادات هؤلاء"الممانعين"اليد الطولى في تقرير مصائر الشعوب التي اقتادتها هذه القيادات نحو"التحرير"المدعوم من ايران. ماذا سوف يعني ذلك على أرض الواقع؟ ان تكون"المناطق الساخنة"التي بسطت ايران يداً عليها، أو على بعضها، هي الدروع البشرية في معركتها النووية... قد تكسب فيها وقد لا تكسب. لكن المؤكد ان هذه"المناطق"ليست سوى... مناطقنا. و"المعركة"من اجل النووي الايراني سوف تحولها الى ارض خراب لا يعرف مدى هوله الا من جرّب عن قرب شديد أهوال حروب الاصدقاء او الاشقاء العادلة على غير ارضهم... أن لا يتعلم الانسان من تجارب غيره أومن تجارب التاريخ، فهذا امر شبه مقبول..."عادي"، مثل الاهواء الانسانية الاخرى. اما ان لا يتعلم من تجربته الخاصة، القريبة السابقة، فهذا ما يطرح سؤالا يطاول مدى إعمال العقل، وهو يطرحه بإلحاح شديد...