ضجر، وإحساس غامض بالكآبة، ودُوار خفيف، وتخشُّب، رأيت ان أعالجه بشرب شاي أخضر. ثم أحسست برغبة لتناول فطيرة محلاة تعد بالمقلاة Pancake... كان الطقس بارداً ورمادياً. والراديو يرسل انغاماً على البيانو لرخمانينوف. وأنا أشعر ان رأسي ناضب من كل شيء، ولا اكاد اقوى حتى على تبييض كتاب فرغت من كتابته في منتصف ايلول سبتمبر 2005. كنت في المطبخ أُعدّ الفطيرة، وألقي نظرة بين الحين والآخر الى الخارج، عبر النافذة، لغير ما سبب. ثم خطف بصري اللون الأحمر لسيارة البريد الملكي، وهو يدور نصف دورة، ثم يتوقف امام المطبخ، على قيد خطوات... هل كنت أنتظر شيئاً؟ لكنني نسيت ذلك. نسيت ان ثمة رزمة بريدية في طريقها إليّ من هولندا، بعد ان تحدثت مع صديقتي الموسيقية الهولندية روز ميري عن فيلم"الفتاة ذات القرط اللؤلؤي"المستوحى من لوحة للفنان الهولندي فيرمير Vermeer، ووعدتني بأن ترسل إليّ كل ما له علاقة بهذه اللوحة وهذا الفيلم... ثم ترجل سائق سيارة البريد الملكي الحمراء، من سيارته، وتوجه الى عمارتنا متأبطاً رزمة. ورن جرس شقتي. فتم استلام الرزمة، وشكرت ساعي البريد. وطار السأم، والإحساس الغامض بالاكتئاب، والدوار، والتخشب. وصرت أمارس إحساساً غامضاً بالسعادة، لأن عالمنا لا يخلو من التماعات طوباوية صغيرة. رواية تريسي شيفالييه كانت الرزمة مغلفة من داخل مظروفها الخارجي بأكثر من غلاف، بمادة لدائنية للمحافظة على سلامة المواد المرسلة. ثم كان هناك كيس نايلوني انيق في زخرفته، يبدو انه مما توضع فيه الأشياء المشتراة من متحف هو متحف Mauritshuis في لاهاي، إنها لمسات امرأة، وصاحبة ذوق ايضاً فهي موسيقية على اية حال، في الأعلى كان هناك مظروف ازرق غامق، وفي داخله بطاقة مع مظروف ابيض عليها صورة الفتاة ذات القرط اللؤلؤي. وتحتها مغلف فيديو لفيلم بالعنوان ذاته، تمثيل سكارلت جوهانسن، وكولن فيرث. وكُتب على غلاف الفيديو ان الفيلم نال جوائز. وتحت مغلف الفيديو كتاب رواية بعنوان"الفتاة ذات القرط اللؤلؤي"، تأليف تريسي شيفالييه. وبعد ذلك مغلف أكبر وقد أُلصق عليه شريط أنيق على هيئة انشوطة. وفي داخله كتاب بعنوان"فيرمير في متحف الموريشيوس". وبعده اضمامات من الأوراق عن فيرمير، واللوحة، والفيلم، ورسالة من روز. في زيارتي الى عمان في الشهر الماضي شاهدت هذا الفيلم، عَرَضاً، على شاشة إحدى الفضائيات العربية المكرسة لعرض الأفلام الأجنبية. ولدى عودتي الى لندن، اتصلت بالسيدة روز، بصفتها هولندية، حباً في الوقوف على المزيد من المعلومات عن الموضوع، فكانت تلك استجابتها. 36 لوحة لم يخلّف جان فيرمير 1632 - 1675 سوى 36 لوحة. ولعل ندرة اعماله الفنية أضفت على اسمه مسحة من الغموض بعد موته، مع انه كان معروفاً جيداً في بلدته ديلفت في اثناء حياته. كان رئيساً لنقابة القديس لوقا في البلدة، وكانت لوحاته غالية الثمن، لكنه مات مثقلاً بالديون. وعُرف فيرمير اكثر منذ سنة 1866، بعد ان نشر الناقد الفني الفرنسي تيوفيل توريه سلسلة من المقالات عنه. وتيوفيل توريه كان راديكالياً في مواقفه السياسية، ويُعتبر رائد الواقعية. فقد كان ينظر الى فن عصر النهضة كألعوبة ارستقراطية، مؤكداً ان الفن ينبغي ان يمثل المستضعفين. واعتبر فيرمير كشاعر للحياة اليومية، لأنه رسم لوحة بائعة الحليب، المجهولة الاسم. ومن جهة اخرى، يترك فن فيرمير انطباعاً بأنه عصري. فهو يبدو اشبه بعمل فوتوغرافي - في تركيز الضوء بحدة في بقع معينة من اللوحة، وفي التناقض الحاد، والمنظور الدراماتيكي - الى حد جعل مؤرخي الفن يذهبون الى انه ربما استعمل تقنية الحجرة المظلمة. لكن هذه النظرة تنسى ان واقعية فيرمير هي ليست وصفاً بل موقفاً. لعلنا لا نفرط في المبالغة اذا قلنا ان"الفتاة ذات القرط اللؤلؤي"هي واحدة من عيون الأعمال التشكيلية في العالم الغربي، فهي تنعت بموناليزا العالم الشمالي. إنها من بين احب اللوحات في العالم. وهي، مثل موناليزا دافنشي، لا تخلو من سحر وغموض. وجه الفتاة، هنا، يبدو كوميض ضوء منبثق من الظلام. إنه شيء خارق في دلالته البصرية. ثم ان الفتاة، بالتفاتة وجهها إلينا، تذهلنا وتأسرنا بسحرها. فهل هي صورة لفتاة حقيقية، ام دراسة عن فن البصريات وعلم الفراسة، ام كلاهما، كما يتساءل احد النقاد. ان عينيها المكورتين تنطقان بالكثير من التعابير الصامتة. وهناك ذلك البياض ذو اللمعة القشدية لبشرتها، والضوء الساقط على شفتيها الفاغرتين قليلاً، وحتى مظهر اسنانها، وسواد احد المنخرين. ثم ذلك الجمال الأخاذ لوجهها المائل، المرصع بالظلال، الذي يضفي على ملامحها انطباعاً من الثقة العالمية بالنفس... وجه يتألق بفتحة فم مقتصدة ومعبرة. علاقة صامتة حرص فيرمير على رسم فتاته على خلفية من الظلام، وهو شيء يختلف تماماً عما هو مألوف في منازل ديلفت. وهذا ما يجعل اللوحة عملاً آسراً: إنها منبثقة من الليل، كمشكاة، ما يضفي على اللوحة بعداً ميتافيزيقياً. فيلم"الفتاة ذات القرط اللؤلؤي"هو اول عمل للمخرج البريطاني بيتر ويبر. يصور الفيلم العلاقة بين الفنان الهولندي فيرمير تمثيل كولن فيرث وموديله الملغز تمثيل سكارلت جوهانسن. وهو مستوحى من رواية تريسي شيفالييه، واللوحة التي تحمل العنوان. ولم يكن مستغرباً ان يكون الفيلم متقشفاً في الحوار، لكنه غني في تعابيره الصامتة. ان كل لقطة فيه عبارة عن لوحة فنية، ربما لكي يذكرنا بأنه فيلم عن فنان. لكن هناك ذلك البعد الروائي والعاطفي، الملغز في الفيلم، انه ايروتيكي من غير جنس، ولا حتى كلام عن الجنس. إن قوة القصة تكمن في كبح المشاعر التي تنطق بها الدواخل والسرائر: غريت Griet فتاة تنتمي الى عائلة بروتستانتية متوسطة غدر بها الزمان بعد عمى رب الأسرة عند انفجار الفرن الذي كان يعمل فيه لطلاء الكاشي بزخارفه. ثم اضطرتها عائلتها للعمل كخادمة في بيت الفنان فيرمير، الكاثوليكي المعتقد، لتكسب رزقها وتعين عائلتها. في البدء تجد نفسها في حيرة في استوديو الفنان، الغريب عن عالمها، ثم لا تلبث ان تتعلم مهنة الصانع، وتصبح مشتهاة من جانب الفنان، وتنشأ بينهما علاقة صامتة، لكنها مع ذلك تعرّض حياة فيرمير الشخصية والفنية للخطر. لكن غريت تعجب الفنان كموديل فني يصلح لتحقيق فكرته عن الضوء واللون. وسرعان ما يفتتن بها ويرغب في رسمها خفية عن زوجته، وهي تضع في اذنها قرط زوجته، بعد ان يثقب شحمة اذنها. لكن الفيلم أعقد من ان يبدو موضوعاً يدور حول الهاجس الإيروتيكي بإرهاب فني. فاللوحة منذورة للسيد فان رويفين، ظهير الفنان فيرمير. والاستئثار بها - أي اللوحة - يلبي نزعته الكيوبيدية الفنية المنحطة. بيد ان فان رويفين يدرك بجلاء انه كزائر محترم وكثير التردد على الاستوديو، سيكون بمستطاعه ان يفرض نفسه جنسياً على الخادمة غريت، وهكذا ستصبح اللوحة اشبه بجواز مرور لعمل مشبوه. ومن ثم، فإن هذه المهمة ستفوح منها رائحة عطنة، يصبح فيها فيرمير، المأزوم مالياً، متواطئاً عن غير قصد هذا ما يذهب إليه ناقد وتصبح اللوحة اشبه بأداة للخيانة. محرر"سينما المستقبل"سأل مخرج الفيلم بيتر ويبر: الفيلم يعالج موضوع التوازن بين الناس والأشياء المرغوبة وأولئك الذين يرغبونها؟ أجابه ويبر:"أظن انه احد الخيوط بلا شك. أعتقد انه فيلم لا يحظى فيه احد بما يريد، وهو شيء مهم في عصر نبدو خاضعين لهاجس ارضاء الذات. لم يحظ فيرمير بغريت ولا غريت حظيت بفيرمير، فيرمير هو ضرب من الناس الذين يحصلون على ما يبتغونه لأنه يرسم هذه اللوحة الفريدة، وعلى رغم انه ملتزم بأخلاقية عصره وبقيمه، فقد كان في وسعه ان يحقق ذلك بأية صورة اخرى، لأن كل شيء كان خاضعاً لخدمة فنه في آخر المطاف. انا أعتقد انه يستخدم علاقتهما لخلق نوع من الحوار بين الفنان والجليسة، بحيث يحصل على مبتغاه لكن بطريقة مدمرة له. وذلك هو الثمن الذي يدفعه: مزيد من الدموع تنهمر على الصلوات المستجاب لها اكثر من غير المستجاب لها. إن الظهير فان رويفين ينال لقاء ما يدفعه، لكنه لا يحصل على ما يريد، لأن الفتاة لن تنظر إليه كما تنظر الى فيرمير. إن في وسعه ان يمتلك اللوحة، لكنه لا يستطيع ان يمتلك اعماقها".