على رغم ان حرية العقيدة وحرية التعبير من الحقوق الاساسية، الا انهما احياناً يقعان في حال من التنازع، على غرار قضية الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت أخيراً في صحيفة"يولاندس ? بوسطن"الدنماركية، التي تصور النبي محمداً صلى الله عليه وسلم، اذ اثارت تلك الرسوم الكاريكاتورية غضب المسلمين، ليس فقط في الدنمارك، ولكن في طول العالم الاسلامي، حيث من المعلوم على نطاق واسع، ان الاسلام يحظر تصوير او رسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم. والقضية المثارة الآن ليست قضية"رقابة ذاتية"، بحسب زعم المحرر الثقافي للصحيفة فلمينغ روس، الذي يرى انها طرحت في اوروبا منذ مقتل المخرج الهولندي ثيو فان غوغ، انما القضية هي: هل احترام المعتقدات الدينية الاخرى وتقاليدها وممارساتها، ينطبق فعلاً على كل امرئ، بمن في ذلك المسلمون؟ نفضل استخدام لفظة"احترام"على"تسامح"، لأن"التسامح مع المرء"لا يعد فكرة ايجابية، إضافة الى ان"الاحترام"ليس مفهوماً أحادي الجانب، او بعبارة اخرى من جانب واحد فقط، انه عمل متبادل، فاذا كانت الرسوم الكاريكاتورية موضوع الشكوى، رسمت ونشرت عن عمد لإغضاب المسلمين واثارة الرأي العام في الدنمارك، على نحو ما يذهب السيد روس، كما يبدو، فقد وقع خطأ ما. ان ما نجحت فيه الرسوم الكاريكاتورية هو إيذاء جميع المسلمين، بدلاً من التركيز على اولئك المتعصبين الذين يستحقون النقد فعلاً. الاستثارة تكون ضرورية احياناً لإيقاظ الناس. وعلى مدى الثلاثين عاماً الماضية لم يكن هذا الامر غريباً لدى المؤتمر اليهودي العالمي، لكن الاعراف والممارسات والمعتقدات الدينية يجب ان تلقى احتراماً من جانب اتباع الديانات الاخرى، ومن غير المؤمنين على حد سواء، لأن ذلك شرط أولي لاحترام الانسان لذاته. وعلى رغم ان حرية التعبير حق لا يتجزأ، الا ان القانون قد يجعل منها مخالفة، اذا ما صاح امرؤ مثلاً"حريق"في وسط احدى القاعات او مباني الاجتماعات المزدحمة بالبشر، لأن مثل هذا التصرف قد يسبب حالاً من الهلع والضرر الجسماني. ان الكلمات والافعال التي من شأنها اثارة غضب وردود فعل قوية، مهما كانت تصرفاً غير مبرر، يجب ان تكون محدودة، على الاقل حينما يتعلق الامر بالمعتقدات الدينية. ان الاحترام والتفاهم المتبادلين بين افراد الديانات المختلفة، هما السبيل الى إنهاء الكراهية وخلق عالم افضل، واننا نعتبر تدنيس أي كتاب مقدس بمثابة إهانة لانفسنا، فانتهاك قدسية القرآن او التوراة او الانجيل، او أي مكان مقدس، يجب ان يعد إيذاء لنا جميعاً، ان الاحترام المتبادل يقصد به هذا بالضبط، فأنت تحترمني وتحترم كل ما امثله، وانا احترمك واحترم كل ما تمثله. ان اغضاب واستثارة الاقلية المسلمة الصغيرة نسبياً في الدنمارك عن دراية كاملة بذلك، كان عملاً خطأ. نعم، على المهاجرين ان يندمجوا في المجتمعات المضيفة، أكانوا مسلمين أم يهوداً ام مسيحيين، وفي الوقت نفسه، يحتفظون بهوياتهم ومعتقداتهم وعاداتهم واديانهم. ان المجتمعات المتماثلة يمكن ان تكون، بسهولة، ارضاً خصبة لتفريخ المتعصبين والمتطرفين، وفي النهاية الارهابيين. ان الهجرة تفشل احياناً في تحقيق مضمونها، لأن المهاجرين لم يبذلوا جهداً كافياً للاندماج، ولكن، من الصعب على المهاجر تحقيق هذا الامر، إذا كان البلد المضيف متسماً بعدم التسامح وبالقسوة. ومهمة الحكومات والمشرعين هي التأكد من ان المهاجرين لا يتم التعامل معهم بصفتهم غزاة جدداً، كما يرى البعض، وانما باحترام، وينبغي ان نرحب بأولئك المهاجرين الذين يسعون جاهدين للاندماج، بل يجب ان نتيح لهم فرصة تقديم شيء للمجتمع، يفوق مجرد اسهاماتهم المالية في خزانة الضرائب الخاصة ببلدانهم الجديدة المضيفة. فطوال الالفي سنة الماضية حتى قيام دولة اسرائيل، كان اليهود دائماً اقلية في كل بلد استقروا فيه، وقد عانى اجدادنا من المذابح ومعاداة السامية، واخيراً"الهولوكوست"او الابادة الجماعية. ان الاكاذيب التي احاطت باليهود والديانة اليهودية وعاداتها لم تختف قط، والواقع انها تتأهب للعودة ثانية، خصوصاً في"الديموقراطيات الغربية"التي اعتقدنا انها محصنة ضد معاداة السامية بعد الفظاعات التي وقعت في"الهولوكوست". وعلى رغم ذلك، كان المثقفون والسياسيون اليهود دائماً في طليعة المدافعين عن حقوق الانسان والديموقراطية وحرية التعبير، لكن هذا الحق الاخير له حدود يجب احترامها، ونشر المواد والمواضيع التي تعتبر مسيئة للاقلية الدينية الصغيرة، بلغ مدى بعيداً للغاية. ومثل هذا العمل خطأ بقدر الخطأ في التمييز ضد المجتمعات الاسلامية. ان الديموقراطيات تتعرض لاختبار في ما يتعلق بكيفية تعاملها مع اقلياتها. وعلى مدى عقود، منذ نشر إعلان مجلس الفاتيكان الثاني Nostra Aetate، انخرطت الكنيسة الكاثوليكية والجالية اليهودية في الحوار، وهذا مثال ناجح على إمكان التغلب على الضغائن والكراهية التي دامت عصوراً، من خلال استماع كلّ للآخر، بدلاً من الاكتفاء فقط بالحديث عن الآخر. المسيحيون واليهود والمسلمون جميعهم ابناء نبينا ابراهيم، ويجب ان نتعرف على المشترك بيننا، او بعبارة اخرى ما يجمعنا. وفي اعقاب ذلك، ربما تبدو اختلافاتنا اقل اهمية. نحن في حاجة إلى تحفظ في ما نذكره عن الديانات الاخرى، وفي ما يتعلق بحكمنا على المعتقدات الاخرى. لسنا في حاجة الى تشريعات جديدة، فليس في مقدورنا تقييد حرية التعبير، وانما نحتاج إلى أن نقيد انفسنا، وان لم نفعل فسنتعرض للتقييد من الغير على الارجح. * رئيس المؤتمر اليهودي العالمي - نيويورك