قبل 75 عاماً تعرضت دولة الفتى العلماني مصطفى كمال أتاتورك لأول محاولة إهتزاز في بلدة صغيرة تسمى منيمن، عندما هاجمت مجموعة من أتباع الطريقة النقشبندية الإسلامية مبادئ الجمهورية وشعاراتها في ساحة البلدة المذكورة وأعدمت الضابط الجمهوري مصطفى فهمي كوبيلاي إنتقاماً من فرض التغييرات الراديكالية التي أحدثها أتاتورك في الحياة المدنية والسياسية والإجتماعية التركية. وما يثير الإستغراب في تاريخ العلمانية التركية هو الإحتفال بولادة الجمهورية من خلال تلك الحادثة التي وليس بالتواريخ التي سبقتها في إحداث التحول العلماني في تركيا. وفي هذا دلالات ومعان كثيرة لا تتصل بالحادثة فحسب بل تدخلها في صلب الحياة التركية الحديثة التي تعاني من طغيان"مركنتيلية"دينية عليها على رغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على إعلان الجمهورية وفصل الدين عن الدولة. كانت بلدة منيمن مكاناً نموذجياً للصراع بين علمانية العسكر والمجتمع المحافظ، إذ خصت ذاتها إستيلاداً تاريخياً للفصل بين الذاكرة الجماعية المتجذرة في وحل التخلف الديني والإجتماعي وبين ايديولوجيا التناغم القومي العلماني. ويمكن القول بالتالي ان العلمانية المستقدمة على التاريخ لم تفكك العقد الإجتماعي ولم تؤسس لذاتها بيئة ثقافية سياسية توفر لقضايا الحرية والديموقراطية شروطها الصحيحة. فالبلدة الملعونة كما وصفها أتاتورك حينها جسدت بداية فشل العلمنة التي لم تحدث أي تغيير في البنى الثقافية والدينية والبسيكولوجية للمجتمع، ذلك انها أفقدت لقاء المُتخيل السياسي بالمُجسَد الإجتماعي، والذي أراده مؤسس الجمهورية لقاء ينهي فوضى ثقافية ولغوية ودينية ترسخت في التقاليد العثمانية التي فضّلت عدم التعرض للغات وثقافات الأُمم التي دخلت في حيازة الإمبراطورية. وكانت الإشكالية التاريخية بين جديد القوميين وقديم الإمبراطوريين غاية في التعقيد، إذا استعرنا تعبير غرامشي. وشهدت السنوات التي سبقت حادثة البلدة المذكورة بين النقشبنديين والدرك تغيرات سياسية ودستورية فوقية أدخلت المجتمع في مواجهة كالحة مع الدولة. ذلك انها، أي التغيرات، لم تشمل رأس مال المجتمع الرمزي والذي تجسد في الدين والتقاليد والبنى الثقافية العامة. فإعلان نهاية الإمبراطورية عام 1922 ومن ثم إنهاء دور الخليفة وإستبدال مؤسسات التعليم الديني بمدارس عامة ووضع القبعة محل الطربوش وإلغاء القانون الديني وإعلان المساواة بين الرجل والمرأة وفرض اللغة التركية المُلَتنَنة واعتبار المجتمع التركي مجتمعاً متجانساً، جاءت كلها بقرار من أتاتورك من دون سجال تاريخي داخل المجتمع الذي كان مكبلاً بشروطه الداخلية الإقتصادية والسياسية والثقافية القاسية. وجسدت منيمن التحول التركي المربوط بماضي الإمبراطورية والمجتمع في فشل الطلاق بين القديم والحداثة، وطرحت في الوقت نفسه جملة من الأسئلة والشكوك حول العلمانية التركية التي يمكن إستعادتها للواجهة السجالية في الحياة السياسية التركية في الوقت الراهن. ونحاول التركيز هنا على بعض من جوانب الهوية السياسية لهذه العلمانية التي تبقى ناقصة ما لم ترتسم أبعادها على التحول الإجتماعي البنيوي والتنوع الثقافي والتحرر من البارانويا القومية والجيو-سياسية التي تعانيها تركيا اليوم. فالصراع بين المؤسسة العسكرية التركية التي تمثل وجه العلمانية الأبرز وبين القوى الدينية وتراثها الإجتماعي لا يختلف عما جرى من صراعات بين الجديد الناقص والقديم الثابت في بدايات تأسيس الجمهورية، ذلك ان العلمنة تأسست على فراغ تاريخي طويل تمثل في حكم السلاطين، ولم يشهد سوى تجربة خجولة في البحث عن المدنية وهي تجربة"الإتحاد والترقي"التي أجهضتها حركة"تركيا الفتاة"عام 1908. أي ان العلمنة التركية فرضت وفق قرارات سياسية بعيداً من التحول المجتمعي عكس ما حدث عند الأوروبيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إذ رأت فيه الطبقات الإجتماعية والسياسية والدينية سجالاً فكرياً وآيديولوجياً عنيفاً هزّ الأركان الأساسية لحكم السلاطين والفكر التيولوجي وتراجع على أثره دور الكنيسة في إدارة الدولة والمجتمع. وطرحت تلك المغامرات الفكرية والأدبية والفنية التي توزعت بين الماركسية والفرويدية والنيتشوية وقلبت الحياة الإجتماعية والسياسية في أوروبا، شكوكاً تجاه الثقافة الأوروبية ذاتها وقلبت أساليبها المنمطة رأساً على عقب، وأصبحت اللوحة السوسيو- ثقافية التي كان الأقرب فيها للثبات يخص ذاته بعناصر التحول، مشهداً للتمرد والنضال الفرديين ضد المؤسسة الإجتماعية والتاريخية السائدة وقتئذ. ووفقاً للتعبير الأرستقراطي للثقافة يمكننا القول ان المدن والعواصم الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت عرضة للإختراق اللغوي والثقافي والنشاط الإجتماعي غير الأليف مع التقاليد الأوروبية الارستقراطية، وتمكنت حركات التمرد الإجتماعية والفردية بالتالي من إنتاج ثقافة خاصة بها، لكنها ممتزجة بالوضع الكلاسي للمدينة لجهة اللغة والتقاليد والزواج. ثم بدأت هذه الحركات تشارك المجتمع المديني والمحافظ على تقاليده في التجارة والصناعة وتقاسمه في البعد المكاني. يقول ريمون ولييمز:"من اجل أن نفهم التعقيدات الأكثر عمومية في طرائق الحداثة،علينا أن ننظر إلى ما وراء أولئك البشر كأفراد، إلى التتابع العنيف للحركات الفنية والتكوينات الثقافية التي شكلت التاريخ الفعلي للحداثة". وترتبط هذه الفكرة التي يطرحها ولييمز بالثقافات الهجينة التي حملها افراد من قاع المجتمعات الغربية وغيرها من المجتمعات هاجر أبناؤها من الأطراف"المُكَولَنة" في أنحاء العالم إلى تلك المناطق الحضرية التي كانت محظورة على غير حاملي العرق الخالص قبل الحقبة الكولونيالية. وكان سخف أفراد هذه الحركات، والذين أتوا من العوالم السفلى على الأغلب للبرجوازية المُستعرضة للأدب والفن والثقافة والسياسة القائمة زمنئذ، جزءاً من ميكانيزم علاقة زواج سببي بينهم وبين مفاهيم إشتراكية وعمالية وفوضوية. لكنها بقيت علاقة غير ملتزمة واقتصرت أشكالها على رفض المألوف وقوانين الدولة الإحتكارية والثقافة"البيتية"ولادنيوية النزعات الأخلاقية تجاه الجنس. وفق المعطيات تلك ، تحرر المجتمع والدولة مع بداية عصر الحداثة الأوروبي من الآيديولوجيا الهوموجينية بعدما تمخض عنه سجال شمل جميع نواحي الحياة. في وصف بسيط وواضح للمسافة التي فصلت دولة أتاتورك عن المجتمع التركي ، يمكننا إعارة صورة حصان لم يسبق العربة فحسب، بل انقطع الحبل بينهما وتوقفت الثانية عن الحركة، فيما تقدم الأول من دون الإلتفات إلى وراء. إذا، أنتجت المساحة الفارغة بين الحصان والعربة معاني العلمانية الأولى التي تجسدت في حادث دموي في ساحة بلدة منيمن. وفي سياق الوصف نفسه يمكا القول ان الإشكالية لم تخص تخلف المجتمع وحده، بل خصت عملية العلمنة أيضاً. إذ فرضتها الدولة من دون تأسيس قاعدة توفر لها الطلب الإجتماعي وليس العرض. فالذي أدى إلى مقتل الضابط كوبيلاي كان عرضاً وبيّن دلالة إستيلادية للرأسمال الرمزي الإجتماعي حين يعيد إنتاج خطابه وأدواته من خلال تفعيل المبادلة الذاتية من دون الحاجة إلى طرف آخر. ذلك ان النموذج التركي للعلمنة تعمد تجنيس المجتمع وفق آليات آيديولوجية قومية أخفت قيم المواطنة المختلفة وكرست بالتالي عملية تكرار التاريخ وفق خطاب تداخلت فيه عناصر الخوف من المحيط التاريخي والجغرافي، ناهيك عن الخوف من التنوع الهوياتي داخل تركيا. في هذا السياق بدت الدولة كطرف آخر تعتمد المبادلة الذاتية في تسويق سياساتها التي أدت إلى تلوين لوحة الحصان والعربة بعدما كان أسود وأبيض في بداياتها. كاتب كردي مقيم في مونتريال